حادثة طريفة وقعت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت من جملة الأسس التي بُنيت عليها قاعدة اعتبار القرائن وشواهد الأحوال المعمول بها في دوائر القضاء من نيابة واستنطاق واتهام ومحاكمة وَفْق ما توحيه تلك القرائن من ظنٍّ ويقين لضعف أو قوة في ماهيَّتها، ذلك أنَّ علقمة بن وائل حدث عن أبيه: أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح، وهي تعمد إلى المسجد عكْورةً على نفسها، فاستغاثت برجل مرَّ عليها، وفرَّ صاحبها، ثم مرَّ عليها ذوو عدد، فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به، فأخذوه، وسبقهم الآخر، فجاؤوا به يقودونه إليها، فقال: أنا الذي أغثتك، وقد ذهب الآخر، فأتوا به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أنه الذي وقع عليها، وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذب، هو الذي وقع عليَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انطلقوا به فارجموه"، فقام رجل من الناس، فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي وقع عليها، والذي أغاثها، والمرأة، فقال للمرأة: "أما أنتِ فقد غُفر لك"، وقال للذي أغاثها قولًا حسنا، فقال عمر: ارجُم الذي اعترف بالزنا، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لا، إنه قد تاب إلى الله"، والحديث في سنن النسائي.
[رواه النسائي في الكبرى في كتاب الرجم (7270) وقال: أجودها حديث أبي أمامة مرسل. والطبراني (15/ 22)، والبيهقي في السرقة (8/ 284) وقال: هذه الرواية يحتمل أنَّه إنما أمر بتعزيره ويحتمل أنَّهم شهدوا عليه بالزنا وأخطئوا في ذلك حتى قام صاحبها فاعترف بالزنا، وقد وجد مثل اعترافه من ماعز والجهنية والغامدية ولم يسقط حدودهم وأحاديثهم أكثر وأشهر. ورواه أحمد (27240) وقال مخرِّجوه: إسناده ضعيف، سِماك -وهو ابن حَرْب- تَفَرَّد به، وهو ممَّن لا يُحتمل تفرُّدُه، ثم أنه قد اضطرَب في متنه. وأبو داود في الحدود (4379)، والترمذي في الحدود (1454) وقال: حسن غريب صحيح].
قال ابن القيم [في «أعلام الموقعين عن رب العالمين» (3/ 439)]:«هذا من أدلّ الدلائل على اعتبار القرائن والأخذ بشواهد الأحوال في التهم، وهو يشبه إقامة الحدود بالرائحة والقيء، كما اتَّفق عليه الصحابة، وإقامة حد الزنا بالحبل، كما نصَّ عليه عمر رضي الله عنه، وذهب إليه فقهاء أهل المدينة، وأحمد في ظاهر مذهبه، وكذلك الصحيح أنه يقام الحد على المتهم بالسرقة إذا وُجد المسروق عنده، فهذا الرجل لمَّا أُدرك وهو يشتدُّ هربًا، وقالت المرأة: هذا هو الذي فعل بي، وقد اعترف بأنه دنا منها وأتى إليها وادَّعى أنه كان مغيثًا لا مريبًا، ولم ير أولئك الجماعة غيره، كان في هذا أظهر الأدلة على أنَّه صاحبها، وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البيِّئة، واحتمال الغلط أو عداوة الشهود كاحتمال الغلط وعداوة الـمرأة هـهنا، بـل ظـنُّ عـداوة الـمرأة فـي هـذا الـموضع فـي غايـة الاسـتبـعاد، وهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع" اهـ.
ومن الواضح الجلي أنَّ ما يُسمَّى الآن في قضائنا بالقناعة الوجدانيَّة المتَّخذة مناطًا ومستندًا للأحكام الجزائيَّة إنما يدور حول أمثال هذه القرائن والأحوال وشواهدها، والـأحكام الظـاهرة تابـعة للأدلـة الظـاهرة مـن البيِّئـات والأقـارير وشـواهد الأحـوال، وكونها فـي نفس الأمـر قد تقع غـير مطابقة ولا منضبطة أمـر لا يقـدح فـي كونهـا طـرقًا وأسبـابًا للأحـكام، والبيِّئـة لم تكـن موجـبة بـذاتهـا للعقوبـة وإنـَّما ارتبـاطهـا بهـا ارتبـاط المدلـول بـدليـله، فـإن كـان هنـاك دليـل يقـاومهـا أو أقـوى منهـا لم يلغـه الشـارع بـل اعتبـره، وظهـور الأمـر بخـلافـه لا يقـدح فـي كـونه دليـلًا كالبيِّئـة والإقـرار. ذكـر ذلك ابـن القـيم فـي تعليـقه علـى هـذا الحـديث فـي كتـاب "الأعلام"، وانظـر كـيف وُفِّـق هـذا الحـبر إلـى حُسن التـخريج فـي دقـة التعليـل، أليـس هـذا مـن حيـث المـآل عيـن مـا أورده العـلامة "باز" فـي شرحـه لأصـول المحاكمـات الجـزائيَّـة عنـد البحـث علـى إنـاطة الأحـكام الجـزائيـَّة بالقناعـة الوجدانـيَّة حيـن يقـول: "الحكـم منـوطٌ بوجـدان الحـاكم واقتناعه، لكـن يشـترط أن يبنـي اقتناعـه علـى البراهـين والأدلـة التـي قامـت فـي المحاكـمة لا علـى معـلوماته الخصومـية أو علـى مـا اتَّصـل به مـن الأخبـار لا عـن طريـق المحاكـمة، لأنـه يلـزم أن يحيـط المدعـى عليـه علمًـا بمـا قـد قـام عليـه مـن الدلائـل ليعـارضهـا مواجهـة وعلانيـة فـي المحاكـمة".
ولمَّا لاحظ ابن القيم أنَّ كثيرًا من الفقهاء لا يجيز القول بإسقاط الحدود بعد قيام ما يوجبها وجد لهم بعض العذر حين يقول[3: 440]: "إذا لم يتَّسع له نطاق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فأحرى أن لا يتَّسع له نطاق كثير من الفقهاء، ولكن اتَّسع له نطاق الرؤوف الرحيم ، فقال: "إنَّه قد تاب إلى الله"، وأبى أن يحدَّه، ولا ريب أنَّ الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعًا واختيارًا خشية من الله وحده، وإنقاذًا لرجل مسلم بريء من الهلاك، وتقديم حياة أخيه على حياته، واستسلامه للقتل، أكبر من السيِّئة التي فعلها، فقاوم هذا الدواء لذلك الداء، وكانت القوة صالحة، فزال المرض، وعاد القلب إلى حال الصحة، فقيل: لا حاجة لنا بحدّك، وإنما جعلناه طهرة ودواء؛ فإذا تطهرت بغيره فعفوُنا يسعك، فأيُّ حكم أحسن من هذا الحكم، وأشدُّ مطابقة للرحمة والحكمة والمصلحة".
وإذا كان الغرض من إقامة الحدود إصلاح المجتمع وحياته الحياة الهنيئة اللائقة به فإنَّ في توفر المصلحة المحقَّقة بدون إقامتها في بعض القضايا لعدلًا بيِّنا وفضلًا ظاهرًا، وقد جاءت حوادث من هذا النوع مبثوثة في بطون الكتب، والبحث فيها يطول ويصرف عن الموضوع، والمقصود أنَّ القرائن والإمارات كما أنها سبب في التجريم فهي سبب للبراءة، وهذا مستنبط أيضًا من قاعدة عظيمة النفع جليلة الشأن تنعى على كل من يصمُ الشريعة الإسلامية بعيب الجمود وعدم الصلاحيَّة للتمشِّي مع الزمن والأبدية وتنادي عليه بالجهل والغباوة، وترميه بقلة الفهم وضيق الاطلاع، وأنه استنَّ به الهوى حيث أراد، وكان الأجدر به أن يدأب في إسهار ليله وإجهاد نهاره حتى يكون أسدَّ رأيًا وأصدق قولًا وأوفر عدلًا في إصدار حكمه على الشرائع، فلا يفيض في المنطق عن غير روية، ولا يتهجم على ما ليس له أثارة من علم عنه، لئلا يقلبه الغرور شرَّ منقلب، فتستبهم عليه معالم القصد وتعمى عليه وجوه الرشد.
أمَّا القاعدة المنوَّه بها فهي «تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات» وقد جاءت في جملة القواعد العموميَّة في المجلة الشرعيَّة، ولكنها وردت بتراء لعدم تضمنها تغيُّر الأحكام بتغير الأحوال والنيَّات والأمكنة، ولا يقال: إنها صيغت في المجلة خلوًا ممَّا ذكرنا لأنها في جملة قواعد القانون المدني، لأنا نقول: إنَّ المجلة قد تضمَّنت أيضًا أحكامًا جزائيَّة أيضًا كما هو الحال في المادة المتعلقة بالقرينة القاطعة، وأيضًا فإنَّ من الأحكام المدنيَّة ما لشواهد الأحوال والقرائن تأثير هام في ترتب حكمه عليها، كما هو الحكم عند اختلاف الزوجين في متاع البيت، فما يكون للرجل عادة يُجعل في يد الزوج، وما يكون للنساء يُجعل في يدها، وكما هو الحكم فيمن اشترى ما لم يره فله خيار الرؤية إذا رآه، ولكن إذا تصرَّف في المبيع تصرف الملاك سقط خياره، فجعل تصرفه شاهدًا على الرضا، وكما لو ترك الدعوى بعد مرور الزمن ولم يكن مانع من إقامتها ثم ادَّعى فإنها لا تسمع دعواه مع أنَّ الحق لا يسقط بتقادم الزمن، لكن جعل ترك الدعوى مع التمكن دليلًا شاهدًا على عدم الحق ظاهرًا، فكأنه أقيم الترك بلا عذر مقام الاعتراف بعدم الحق، وكما لو باع عقارًا وابنه حاضر أو امرأته ثم ادَّعى الابن أو الزوجة مثلًا أنه ملَّكه، لا تسمع دعواه لأن سكوته كالإفصاح أي في الدلالة على الرضا قطعًا للتزوير والحيل.
وكما جاء أن الأحكام تختلف بالمقاصد وما تفرع عنها، وكل هذا تضمنته مواد المجلة الجليلة.
وقد استدلَّ ابن القيم في "الأعلام "[3: 434]على هذه القاعدة بقضيَّة العفو عن أبي مِحجن يوم القادسيَّة، وذلك أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أتي بأبي مِحجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد، فلما التقى الناس قال أبو محجن:
كفى حَزَنًا أن تُطردَ الخيل والقنا *** وأُتركَ مشدودًا عليَّ وثاقيا
فقال لامرأة سعد: أطلقيني، ولك اللهُ عليَّ إن سلَّمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت استرحتم مني. قال: فحلَّته، حتى التقى الناسَ، وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس، وصعدوا به فوق العُذيب ينظر إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عُرفُطة، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحًا، ثم خرج، فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلَّا هزمهم، وجعل الناس يقولون: هذا مَلَكٌ، لما يرونه يصنع، وجعل سعد يقول: الضبر- أي: العَدْو- ضبر البلقاء، والظَّفْر ظفر أبي محجن، وأبو محجن في القيد، فلمَّا هُزم العدو ورجع أبو مِحجن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرت ابنة خصفة امرأته بما كان من أمره، فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلًا أبلى للمسلمين ما أبلاهم، فخلَّى سبيله، فقال أبو مِحجن:
قد كنت أشربها إذ يقام عليَّ الحدُّ وأطهَّر منها، فأمَّا إذ بهرجتني، فوالله لا أشربها أبدًا وقوله: "بهرجتني" أي: أهدرتني بإسقاط الحد عني.
ففي هذا تأجيل تنفيذ العقوبة لمصلحة راجحة، وتأجيل تنفيذ العقوبة فصلٌ تباهي به التشريعات الحديثة العصرية، وجعلوه من مفاخر المسيو (برانجه)، ووضعوا له قانونًا في فرنسا مؤرخًا في ٢٦ مايو سنة ١٨٩١ وأسموه قانون برانجه، وعدوه مرحلة من مراحل مقاتلة التكرر ومقاومته، ويقوم مبدأ هذا القانون على التفريق بين المجرمين المتعوِّدين وبين المجرمين المبتدئين، ويرمي في غايته إلى قمع التكرار ومنعه بمزج الطريقتين اللتين كانتا تستعملان منفصلتين حتى ذلك التاريخ وهي التخفيف عن المجرم المبتدئ والتشديد على المجرم المتعود. هذا القانون هو الذي منح القاضي الحق بأن يأمر عندما يحكم بالحبس أو بالغرامة بتأجيل تنفيذ العقوبة مادام المحكوم عليه لا يقترف جرمًا جديدًا في أثناء مدة تسمَّى مدة التجربة، فإذا نفَّذ الشرط بعد هذه المدة فليس يكتفي بأن الحكم لا ينفَّذ فحسب، بل يعتبر كأنه لم يكن، وهذا التأجيل هو الأسلوب البلجيكي-الإفرنسي.
وهناك أسلوب آخر وهو الأسلوب الإنكليزي-الأميركاني، وهو تأجيلُ الحكم بنفسه، وتمامه في نظريات العلامة غارو الجزائيَّة، ترجمة الأستاذ فايز الخوري، وقد يتوسع في هذه القاعدة من لم يقو ذرعه في علم التشريع الإسلامي، فيجعل الأحكام خاضعة على الإطلاق لتبدُّل الأزمنة والأمكنة والأحوال، وفي ذلك من الغلط ما فيه من جعل الحاكم محكومًا، والآمر مأمورًا، فإنَّ الشرع وُضع على أنه أبديٌّ دائم لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد، بدليل قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم... }.
والغلط أتى هذا القائل من ظنِّه أن اختلاف الأحكام عند اختلاف الزمان اختلاف في أصل الخطاب، والواقع خلاف ذلك؛ وإنَّما معنى الاختلاف أنَّ العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها كما في البلوغ مثلًا ، فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف، فسقوط التكليف قبل البلوغ ، ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب، وإنما وقع الاختلاف في القواعد، وحكميَّة الشرع لا تنخرم بهذه القاعدة إذا فهمت حق الفهم ونزلت منزلتها من قلب المنصف اللبيب ؛ لأنَّ الشريعة كليَّة عامة، فمن أراد أن يجعلها خاضعة للعقل والهوى فقد أراد أن يجعلها محكومة، وفي ذلك من الشرّ والفساد ما يخرجها عن كونها وُضعت لمصالح العباد آجلا أو عاجلا، وقد تضافرت النصوص على عمومها. قال الله تعالى: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا} [سبأ: 28]. {قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بعثت إلى الأحمر والأسود". [رواه مسلم في المساجد في المساجد (521) (3)، وأحمد (14264)، عن جابر]. والكلام على هذه القاعدة مطلب جليل يستحق الإفراد بالذكر في وقت آخر إن شاء الله.
بقلم: الأستاذ إبراهيم العظيم
صحَّحها ووثَّق نقولها وخرَّج أحاديثها: مجد أحمد مكي
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين