يدور العالم اليوم، شرقاً وغرباً، في دوّامة العقوق التي بدأت تأخذ شكل ظاهرةٍ مخيفةٍ في بعض مجتمعاته، تجعل كثيراً من الشباب يتردّدون كثيراً في الإقدام على الزواج، وتكوين أسرٍ، وإنجاب الأبناء والبنات.
ولكنّ ما يدعونا إلى التفاؤل هو تلك النقاط المضيئة هنا أو هناك، والتي تُرِينا الوجه الآخر، الدافئ والفطريّ والخفيّ، لهذا العالم؟
في صيف 2021 تبادلتِ المواقع الاجتماعيّة هذه الرسالة التي كَتَبَتْها زوجةٌ سوريّةٌ من العاصمة دمشق؛ تحكي لنا فيها قصّة اقترانها بزوجها، وأنقُلها هنا كما جاءت (مع بعض التصرّف):
"تقدّم أحدُهم لخِطبتي، وكان شرطه الوحيد للزواج هو الاعتناء بوالدته. أخبرني أنه لن يطلب منّي أكثر من ذلك: فقط أن أُراعي أمّه وقت غيابه، فهي طريحة الفراش منذ عشرة أعوام، وبعد وفاة والده لم يبق له سواها في هذه الحياة.
"هذا طلبي الوحيد: أمّي. أعرف أنّكِ لست مُضطرّةً كزوجةٍ إلى رعايتها أو خدمتها، ولكن، إذا وافقتِ، فستفعلين ذلك من باب إنسانيّتك، وطاعةً لي". هكذا قال لي.
كانت أمّه قد تعرّضت لحادث سيرٍ مُرعبٍ فقدت معه التحكّم في جسمها بالكامل، وشُلّت أطرافها. كان هو القائم برعايتها على مدى تلك السنوات، ولكن، نظراً لدراسته ولعمله، كان هناك أوقاتٌ لا بدّ أن يغيب فيها عنها، وهي بحاجةٍ إلى أدويةٍ واهتمامٍ بشكلٍ مستمرّ.
فكّرتُ كثيراً، وحِرتُ أكثر. كأنّه بحاجةٍ إلى خادمةٍ وليس زوجة! تكلّمتُ مع والدي في الموضوع، فخفّف من ضجيج تفكيري وقال لي: اسمعي يا ابنتي، هذا مستقبلك، وليس لي حقّ التأثير عليكِ، ولكن ما دمتِ قد سألتِني رأيي؛ فأنا أؤمن جيداً بأنّ صنائع المعروف تَقي مصارع السوء، وإنّ شخصاً كهذا حريصاً على والدته لن يُضيّعك ولن يظلمك حقّك. إنْ أَحَبّكِ أكرَمَك، وإن كَرِهك فلن يظلمك. فإذا كنتِ قادرةً على أن تُراعي أمّه، ليس من أجل أن ترضيه، بل لتكون في مقام أمّك، فاقبلي يا ابنتي، وإذا كنت تشكّين في أنّ الشيطان قد يجد بابه إلى قلبك فيحملك على ظُلمها؛ فقولُك (لا) أسلمُ لكِ.
وتزّوجنا. وفي أوّل ليلةٍ لي معه أخذني إلى غُرفتها. صُعقتُ من منظر الغرفة! كانت كقطعةٍ من الجنّة. ألوانها، ترتيبها، وسائل التدفئة فيها، مُختلفةٌ تماماً عن باقي البيت. تركَني واقترب من سريرها. كانت نائمةً. أخذ يهزّ كتفها برفقٍ قائلاً: ماما، لقد أحضرتُ هديّتي لكِ! هذه زوجتي، ألا تريدين رؤيتها؟
فتحتْ عينيها برفق، ونظرتْ له بابتسامةٍ وادعة، ثمّ حوّلت نظرها إليّ. لا أستطيع وصف تلك اللحظة. تلك عيناها مليئتان بألم، وثغرها مبتسمٌ بحُزن. كان وجهها كالقمر في ليلة تمامه، هادئٌ جدّاً لامرأةٍ في السبعين من عمرها. قالت: مُباركٌ عليكِ بُنيّتي زفافُك، وأدعو الله أن يَهدي لكِ مثلَ صغيري هذا، وأن يرزُقك ولداً بارّاً مثله، وألّا تكوني ثقيلةً عليه مثلي. ثمّ زرفتْ دموعاً أشبه بفيضانٍ سُمح له بالجريان.. سارَعَ لمسح دموعها بكُمّ سُترتِه وقال: هذا الكلام يُغضبني، وأنتِ تعلمين ذلك، أرجوكِ ماما لا تُعيديها. واقتربتُ أنا منها، وقبّلتُ يدها ورأسها، وقلت: آمين.. ماما...
ومرّت أيّامي في هذا البيت ودهشتي به تزداد يوماً بعد يوم. كان هو من يُغيّر لها (الحِفاض)، وكان يُحمّمها في مكانها بفرشاة الاستحمام، وكان يُبلّل لها شعرها، ويُسرّحه لها. وعندما لاحظ أنّها تألّمت من المشط؛ أحضر لها مشطاً غريباً. كان من الورق المقوّى، ناعماً لا يؤذي فروة رأسها، وكان قد قرأ عنه في أحد الإعلانات التجاريّة فأحضره لها. سُرّت كثيراً بذلك المشط. كان يُضّفر لها شعرها في جديلتين صغيرتين. وكانت تخجل عندما يفعل لها ذلك، وتبتسم بحياءٍ وتقول: لست صغيرةً لتفعل بي مثل هذا يا ولد! فلتُنْهِ ذلك. وكان يردّ عليها: عندما يُعجب أحدهم بكِ فستشكُرينني. عندها تغرق في ضحكٍ عميق. كنت أراه من خلف ذلك الضحك ينظر إليها كطفلٍ في السادسة من عمره. حقّاً كان يُحبّها، وجِدّاً..
لم أعرف ماذا قصد عندما أخبرني بأنّه يريدني أن أعتني بها! إنّه يفعل كلّ شيءٍ بنفسه! أخبرني أنّه يستثقل أن تبقى أثناء وجوده بالخارج وحيدةً لا أحد بجانبها.
كنت أستغرب كيف يجد وقتاً لكلّ ذلك! كنت أساعدها فقط في تناول وجباتها وأخذِ أدويتها.. هذا كلّ دوري...
أحببت علاقته بها جدّاً. كان مُتعلّقاً بها، وهي أكثر. كان يستيقظ في الليل ثلاث مرّاتٍ على الأقلّ ليقلبها من جانبٍ لآخر حتّى لا تُصاب بقُرح الفراش، وليطمئنّ عليها.
كان يُحضر لها مع كلّ مُناسبةٍ ملابس جديدة، ويُشعرها بجوّ تلك المناسبة بمساعدة أدوات التكنولوجيا الحديثة.
وحدث مرّةً أن نسي وضع (حِفاضٍ) لها، وعندما استيقظ ليلاً للاطمئنان عنها؛ شمّ رائحةً، فتذكّر وأدرك خطأه. كانت تبكي جدّاً وتقول: آسفة، حدث ذلك رغماً عنّي... كان مُنهمكاً في تنظيفها وهي تبكي وتقول: أنت لا تستحقّ منّي ذلك.. هذا ليس جزاءً لائقاً بك، أدعو الله أن يُعجّل بما بقي لي من أيّام... ردّ عليها قائلاً: إنّني أفعل ذلك يا أمّي بدرجة الرضا نفسها التي كنتِ تفعلين بها ذلك لي في صغري. وبكيتُ أنا، هذا الرجل فعلاً رزقٌ من السماء....
أنجبتُ منه ولداً، تمنّيت أن يكون مثله في كلّ شيء. حملتُه إلى جدّته ووضعته في حضنها وقلت لها: أريده مثل ابنك! فابتسمتْ وقالت: صغيري هذا رزقٌ لي، والرزق بيد الله يا عزيزتي، فادْعي الله أن يُربّيه لكِ...
كانت حياته كُلّها بركةً وخيراً. لم يتذمّر منها قطّ، لا أمامي ولا أمام غيري.... كانت رائحتُه تعبق بالبرّ بأمّه، حتّى ظننتُ أنّ برّه يكفي ليغطّي ذنوب كلّ العاقّين..
هذا الابن البارّ هو الدكتور محمد راتب النابلسي".(1)
يجب أن أعترف بأنّ هذا النموذج من البِرّ ليس من النماذج النادرة في كثيرٍ من المجتمعات الشرقيّة عامّةً، والإسلاميّة خاصّةً. بل إنّني على ثقةٍ بأنّ هناك الكثيرين من أبناء هذه المجتمعات ممّن لن يجدوا في هذه القصّة ما يدهشهم أو يفاجئهم كثيراً، فتكاد لا تخلو أسرةٌ هنا أو هناك من مثل هذا البرّ الخالص، أو، لكي أكون أكثر موضوعيّةً، ممّا هو قريبٌ منه على الأقلّ.
وعلى الضفّة الأخرى من العالم، سوف تجد "اليد الثانية" في عديدٍ من دول الغرب تحاول أن تملأ هذه الثغرة التي أَحْدَثَها اختفاء "اليد الأولى"، يدِ الأبناء وبرّهم النادر، فتمتدّ يد الدولة هناك من كل زاويةٍ، محاولةً أن تعوّض للآباء ذلك الدفء المفقود: دُورٌ راقيةٌ للمسنّين، تعويضاتٌ مناسبةٌ لإيجار المسكن (House benefit)، ممرّضاتٌ منزليّةٌ دائمةٌ أو شبه دائمة، تسهيلاتٌ معيشيّةٌ متعدّدةٌ في المنزل، عنايةٌ طبّيةٌ مجّانيّةٌ شبه شاملةٍ ومتلاحقة، أدويةٌ مجّانيّة، تعويضاتُ تدفئة، مرتّباتٌ تقاعديّةٌ مناسبة، وجباتٌ جاهزة، رحلاتٌ دوريّةٌ نهاريةٌ قصيرة..
ولكن، هل يغني كلّ هذا عن الأولاد، وعن برّ الأولاد لوالدِيهم؟
لو دخلتَ إلى سريرة كلّ من يتلقّى مِثل هذه الأيادي الحكوميّة السخيّة، واختبرتَ درجة سعادته، ودرجة اطمئنانه الداخليّ، ومدى عرفانه بمثل هذه العناية، الحريصة والدؤوب من الدولة، لأدركت أنّ هناك فراغاً في سريرته/سريرتها لا يملأه مالٌ، ولا سكنٌ، ولا طعامٌ، ولا عنايةٌ، ولا ممرّضةٌ، ولا طبيبٌ، ولا دواءٌ، ولا مستشفىً، ولا رحلاتٌ، ولا نزهاتٌ، ولا دولة، وستظلّ نفسه/نفسها تهفو من الداخل باحثةً باستمرار عن شيءٍ ضائع، وستظلّ عيناه/عيناها تَشْخَصان مُحْدِقَتَين في الفراغ وهما تبحثان عن تلك اللمسة السحريّة المفقودة التي لا تعوّضها أيادي الدنيا كلّها، مهما كان سخاؤها، وهي تتساءل محبَطةً متحسّرةً يعتصرها الألم: ولكن أين يد ولدي؟
لقد درج على مثل هذا البِرّ، وهو الذي تشهد حضارتنا اليوم تراجعاً خطيراً له، عديدٌ من أهل المدن والقرى على السواء في كثيرٍ من بلدان الشرق الإسلاميّ، وربّما المسيحيّ، وما زالوا إلى الآن. ولكن من الواضح، لمن عرف أهلَ دمشق خاصّةً، مدينة الدكتور النابلسي، أنّ هذه النماذج ليست نادرةً في سورية، وفي تلك المدينة العريقة خاصّةً، والمعروفة بمدرستها التربويّة المميّزة والصامدة على الزمن. إنّها المدرسة الدمشقيّة التي فضّل العديد من الصحابة والتابعين، ومِن بَعدِهم أجيالٌ متواليةٌ من شخصيّات الشعوب المختلفة، شرقاً وغرباً، أن ينتقلوا إليها، ويقضوا بقيّة حياتهم فيها، وأن يكونوا، وأسَرُهم مِن بعدهم، جزءاً أساسيّاً من تاريخها، ومن مدرستها الأخلاقيّة والتربويّة.
أذكر أنّني كتبت مرّةً عن قصّةٍ حدثت لي عام 1972 مع الدكتور سعيد رمضان البوطي، وهو من أبناء عائلةٍ كرديّةٍ نزحت إلى دمشق، أيضاً، في أوائل القرن الماضي، عندما عرفتُه لأوّل مرّةٍ أثناء عملي في جامعة اللاذقيّة (تشرين حاليّاً). وهي قصّةٌ موازيةٌ لقصّة الدكتور النابلسي، وإن كانت أحداثها تدور بين الوالد والولد هذه المرّة، والأهمّ من ذلك؛ أنّها تأتي في مستوىً دراميٍّ يعدّ قياسيّاً ومفاجئاً لكثيرٍ ممّن سمعها ويسمعها من أبناء الشرق الأوسط اليوم.
"دعا رئيس جامعة اللاذقية الدكتور سليم ياسين عام 1972 جميع أساتذة الجامعة آنذاك إلى العَشاء في منزله بمناسبة مرور عامٍ على تأسيس الجامعة.
كان الدكتور محمد سعيد البوطي (1929-2013) في تلك الفترة عميداً لكلّية الشريعة في جامعة دمشق، وبرغم مشاغله وارتباطاته الكثيرة فقد قَبِل أن يأتينا من دمشق (إلى اللاذقيّة) كلّ يوم أربعاء لتدريس مادّة القرآن الكريم في قسم اللغة العربيّة، فكنّا نستضيفه تلك الليلة ليعود إلى دمشق بعد ظهر الخميس.
كنت أعمل آنذاك في تأسيس مكتبة الجامعة، إذ لم تكن هذه المكتبة موجودةً قبل ذلك الوقت. وحدث أن زارني رئيس الجامعة في مكتبي وأنا أستضيف الدكتور البوطي عندي، فوجّه إلينا معاً الدعوة لحضور العشاء مساء يوم الخميس. أجبت من فوري بقبول الدعوة شاكراً. ولكنّ الدكتور البوطي طلب بلطف أن يستأذن والده في دمشق أوّلاً!!
لا أدري أيّنا كان وقع المفاجأة عليه أكبر، أنا أم رئيس الجامعة؟ فأنْ يعتذر بأيّ عذرٍ آخر سيبدو أمراً عاديّاً لا غبار عليه، أمّا أن يطلب أستاذٌ جامعيٌّ كبيرٌ في الأربعين (تقريباً) وأبناؤه، ما شاء الله، طلّابٌ في الجامعة، وهو عميدٌ لكلّيةٍ كبيرةٍ ككلّية الشريعة، وفي جامعةٍ كبيرةٍ كجامعة دمشق، أن يطلب الإذن من والده لحضور دعوة عشاءٍ، وتمديد زيارته للّاذقية من مساء الخميس إلى صباح الجمعة، فهذا أمرٌ كان وقْعه عليّ وعلى رئيس الجامعة، كما تؤكّد ملامح الذهول في وجهه، وقْعَ الصاعقة. ومع ذلك فقد استجمع الدكتور ياسين قواه، وعدّل ملامح وجهه بسرعة الدبلوماسيّ الحكيم، وتوجّه إليّ قائلاً: اذهب يا بسّام مع الدكتور البوطي إلى مكتبي ليتّصل من هاتفي المباشر بوالده في دمشق.(2)
المفاجأة لم تنته بعد، ففي مكتب رئيس الجامعة أمسك الدكتور البوطي بسمّاعة الهاتف، وسمعتُ منه وهو يحدّث والده على الهاتف العبارات التالية، وأحاول أن أنقلها هنا حرفيّاً كما سمعتُها:
- السلام عليكم أبي..
- .................
- السيد رئيس الجامعة دعاني مع بقيّة الأساتذة مساء غدٍ (الخميس) للعشاء في منزله، فهل أستطيع حضور المأدبة وأعود إلى دمشق صباح الجمعة (بدلاً من مساء الخميس)؟
- ................
- شكراً أبي... السلام عليكم... ووضع السمّاعة. فقلت له مجاملاً: الحمد لله، هكذا أصبحت الأمور أسهل، وتستطيعون الآن البقاء باطمئنان. وكانت المفاجأة الثانية تنتظرني على لسان الشيخ:
- لا والله، لا أستطيع. أبي ما وافق..
لن تتصوّر أبداً معالم المفاجأة على وجهي، ولا على وجه رئيس الجامعة حين وصفتُ له بدقّةٍ ما جرى على الهاتف.. هل هذا معقول؟!! لا نقاش، ولا حوار، ولا إلحاح، ولا حتّى كلمة رجاء، أو محاولة ثَنْي والده عن رأيه..!! (لا) يعني (لا) وكفى..
الأغرب من كلّ هذا أنّني حين قدّمت الدكتور البوطي قبل سنواتٍ لجمهور الحاضرين في أكاديمية أوكسفورد للدراسات العليا(3) وهو يستعدّ لإلقاء محاضرته هناك، وسمعني وأنا أقصّ عليهم هذه القصّة، ظلّ شاخصاً ببصره إليّ، كمن يتوقّع منك بقيّة النكتة، وعيناه تقولان لي: وماذا بعد؟ أين الغرابة؟!(4)
الواقع؛ أنّ من يعود إلى النصّ الدينيّ الإسلاميّ الخاصّ بالبرّ والإحسان للوالدين؛ قد لا يفاجأ كثيراً بمثل هذه القصص التي نعيشها اليوم بأنفسنا، في دمشق أو في غيرها من العواصم الإسلاميّة التي ما زالت تحتفظ بتلك العروق الزكيّة من مدارسها التربويّة القديمة قدم الزمن.
ولا شكّ أنّ كيميائيّة البِرّ، في كلٍّ من قصّتَي النابلسي والبوطي، لا تبتعد كثيراً عن كيميائيّة البرّ ودرجة الإحسان في قصّة الحديث النبويّ المعروف عن الرجال الثلاثة الذين آوَوا إلى الغار في سفرهم، فهوت من فوقهم صخرةٌ سدّت عليهم الغار، فما الذي فعلوه حتّى تنكشف عنهم الصخرة؟ وماذا كان دور البرّ في نزول الرحمة الإلهيّة عليهم؟
- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: "انطلَق ثلاثةُ رَهْطٍ –أي رجالٍ – ممّن كان قبلَكم؛ حتّى أَوَوُا المَبيتَ إلى غارٍ فدخَلوه، فانحدَرَتْ صخرةٌ منَ الجبلِ فسَدَّتْ عليهمُ الغار، فقالوا: إنّه لا يُنجيكم مِنْ هذه الصخرةِ إلّا أنْ تَدْعُوا اللهَ بصالحِ أعمالِكم. فقال رجلٌ منهم: اللهمَّ كان لي أبَوانِ شيخانِ كبيرانِ، وكنتُ لا أَغبِقُ قبلَهما أهلاً ولا مالاً – مِنَ الغَبوق: وهو شراب المساء، والصَّبوح: هو شراب الصباح. أي لم يكنْ يَسقي أحداً مِن أهلِه أو ماشيتِه قبلَ أن يَحلِبَ لوالديه ويَسقيَهما، لشدّةِ بِرِّه بهما –. فناءَ بي في طلبِ شيءٍ يوماً – أي حدثَ أنِ ابتعدتُ في عَمَلي يوماً – فلم أُرِحْ عليهما – مِن الرَّواح، وهو العودةُ في المساء، عكس الغدوّ، وهو الخروجُ في الصباح – حتّى ناما. فحلَبتُ لهما غَبوقَهما فوجَدتُهما نائمَين، وكرِهتُ أنْ أَغبِقَ قبلَهما أهلاً أو مالاً، فلبِثتُ والقَدَحُ على يدي أنتظِرُ استيقاظَهما حتّى بَرَقَ الفجرُ، (وفي رواية: والصِّبْيَةُ يَتَضاغَوْنَ عندَ قَدَمَيَّ – أي كان أطفالي يتضوّرون ويتذلّلون لي مِن الجوع وأنا أنتظرُ يقظةَ والدَيّ –)، فاستيقَظا فشرِبا غَبوقَهما. اللهمَّ إنْ كنتُ فعَلتُ ذلكَ ابتغاءَ وجهِك؛ ففرِّجْ عنّا ما نحن فيه مِن هذه الصخرة. فانفرَجَتْ شيئاً لا يستَطيعونَ الخروج. قالَ النبيُّ ﷺ: وقالَ الآخَرُ: اللهمَّ كانتْ لي بنتُ عَمٍّ كانتْ أحبَّ الناسِ إليَّ، فأرَدتُها عن نفسِها فامتنَعتْ منّي، حتّى ألَمَّتْ بها سَنَةٌ مِنَ السنينَ – أي افتقرتْ وأصابَ أرضَها القَحط –، فجاءَتْني – أي طلبتْ مساعدتي – فأعطَيتُها عشرينَ ومِائَةَ دينارٍ على أن تُخَلِّيَ بيني وبين نفسِها، ففعَلَتْ، حتّى إذا قدَرتُ عليها قالتْ: لا أُحِلَّ لك – أي حرامٌ – أنْ تَفُضَّ الخاتَمَ إلّا بحَقِّه، فتحرَّجْتُ مِنَ الوُقوعِ عليها، فانصرَفتُ عنها وهي أحبُّ الناسِ إليَّ، وترَكتُ الذهبَ الذي أعطيتُها. اللهمَّ إنْ كنتُ فعَلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك؛ فافرُجْ عنّا ما نحن فيه، فانفرَجَتِ الصخرةُ غيرَ أنّهم لا يستَطيعونَ الخروجَ منها. قالَ النبيُّ ﷺ: وقالَ الثالثُ: اللهمَّ إنّي استأجَرتُ أُجَراءَ فأعطيتُهم أجرَهم، غيرَ رجلٍ واحدٍ ترَك الذي له وذهَب، فثمَّرتُ أجرَه حتّى كثُرَتْ منه الأموال – أي استثمرتُ له أجرَه حتّى ازدادَ مالُه وكثُر –، فجاءني بعد حينٍ فقال: يا عبدَ الله، أَدِّ إليَّ أجْري، فقلتُ له: كلُّ ما تَرى مِنْ أجرِك، مِنَ الإبلِ والبقرِ والغنمِ والرقيق. فقال: يا عبدَ الله، لا تَستَهزِئْ بي! فقلتُ: إنّي لا أستَهزِئُ بك. فأخَذه كلَّه فاستاقَه فلم يترُكْ منه شيئاً. اللهمَّ فإنْ كنتُ فعَلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك؛ فافرُجْ عنّا ما نحن فيه، فانفرَجَتِ الصخرةُ، فخرَجوا يَمشون". [رواه البخاري]
وللأسف، فإنّ جائحة العقوق والإهمال للأبوين التي اجتاحت العالم شرقاً وغرباً، بعد الحربين العالميّتين خاصّةً، قد امتدّت أذرعها إلى زوايا العالم الإسلاميّ. فتيّار العولمة، مدعوماً بوسائل التواصل الاجتماعيّة الأخطبوطيّة السحريّة التي أزالت كلّ الحواجز بين الثقافات المختلفة في العالم، قد ألقى بظلاله القاتمة على العلاقات الأسريّة في كلّ مكان، بحيث رأينا مؤخّراً أباً دمشقيّاً ينعَى باكياً تلك الحقبة التي كان الأبناء فيها طوع بنان آبائهم وأمّهاتهم، ويتحسّر على نفسه من هجران أبنائه وقد أفنى حياته وأمواله في إسعادهم.
يكتب (أ.د) على موقعه في وسائل التواصل (مع بعض التصرّف):
"أُمضي شهر رمضان وحيداً عاجزاً، مثقلاً بالأمراض التي تَحدّ كثيراً مِن حركتي..
أتفقّد هاتفي لعلّه قد استقبل مكالمةً لم أشعر بها، فلا أجدُ من ذلك شيئاً!
خلّفتُ ثلاثة شبابٍ وأختَهم، خلّفوا أربعة عشر حفيداً معظمهم في الجامعات..
أغلب هؤلاء الأحفاد قضى معظم طفولته على أكتافي، متجوّلاً ما بين ديزني لاند (باريس)، ولندن، وميلانو..
أفنيتُ شبابي في تدليل آبائهم وأمّهاتهم..
نجتمع على الطعام خمسة عشر فرداً، بل أكثر...
وفجأةً تختفي الضوضاء والأطفال وآباؤهم، وأرى نفسي صديقاً مخلصاً لصديقين: النوم والنوافذ!
أقسم باللّه، لقد أصبحتِ النافذة أعزّ عليّ مِن أولادي كلّهم!...
لي ولدٌ في كندا، وهو الأصغر، (عمره أربعون عاماً)، يكلّمني بمعدّل مكالمةٍ واحدةٍ في الشهر.. لم يباركْ لي في رمضان حتّى الآن! وطبعاً، على مدى عشر سنواتٍ من الغياب، ومع قلّة مكالماته، لم يسألني يوماً بجدّيّةٍ عمّا إذا كنت بحاجةٍ إلى شيء، وفي نهاية المكالمة يقول لي: (اِرضَ عليّ)، وكأنّ الرضا قطعٌ من السكاكر في جيبي، أُخرج منها متى طُلب منّي..
وأمّا الآخر، في إستانبول، فيحتاج إلى عشرة أيّامٍ حتّى يكلّمني بهاتفٍ مقتضبٍ ينتهي بجملةٍ سريعةٍ ومتّصلة: أتريدُ شيئاً؟ مع السلامة..
وأمّا الكبير بينهم؛ فيكتفي بالسلام عليّ، السلام لا أكثر، عن طريق رسائل الماسنجر، الرسائل المكتوبة طبعاً وليس الصوتيّة.."
الواقع أنّ هذه الصورة المؤلمة لهذا الأب المثكول بأبنائه، وهم ما يزالون أحياءً ويُرزقون خيرَ رزق، أضحت صورةً نمطيّةً لعلاقة الأبناء بآبائهم وأمّهاتهم عند شريحةٍ كبيرةٍ من الأسَر، ليس في المجتمعات الغربيّة فحسب، بل تعدّتها إلى كثيرٍ من المجتمعات الشرقيّة والإسلاميّة.
إنّها رسالةٌ لنا تلخّص بجلاءٍ هذه الموجة التنكّريّة الكاسحة من العقوق التي تجتاح اليوم بيوت الكثير من الأسر في دول المشرق، من غير أن يشعر أبناؤها، غالباً، بأنّهم إنّما يمارسون مع آبائهم وأمّهاتهم العقوق الخطير نفسه، ذلك الذي غزا المجتمعات الغربيّة، وبدأ يطيح بها وبمكانتها التليدة، ويختطف منها عجلة الحضارة التي كانت تمسك بها لقرونٍ عديدة.
إنّها موجةٌ "تنكّريّةٌ" ما فتئت تتزيّن لأصحابها بألوانٍ وأضواءٍ حداثيّةٍ مغريةٍ تخفي وراءها ما تعدّه لهم من انهيارٍ إنسانيٍّ وأخلاقيٍّ وأسريٍّ واجتماعيّ، ومن خرابٍ وشيكٍ للأنفس والبيوت والأوطان. وهي من غير شكٍّ بداية النهاية لأيّ مجتمعٍ، أيّاً كان عرقه، أو دينه، أو مستوى ثروته، أو درجة نموّه الصناعيّ، والاقتصاديّ، والحضاريّ.
(1) صادف أن كنت والدكتور النابلسي زميلَي دراسةٍ في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق، وتخرّجنا معاً في الدورة الأولى لعام 1964، وكان، إلى جانب برّه هذا الذي كشفته لي الرسالة لأوّل مرّة، من أوائل المتفوّقين بيننا في دراستهم. والدكتور النابلسي كاتبٌ ومحدّثٌ وخطيبٌ، ومن كبار علماء دمشق المعاصرين.
(2) هذا، طبعاً، قبل ظهور الهواتف النقّالة وانتشارها السريع بعد ما يقرب من عقدين من السنين.
(3) Oxford Academy for Advanced Studies.
(4) محمّد سعيد رمضان البوطي، بحوثٌ ومقالاتٌ مهداةٌ إليه. دار الفكر. بيروت-دمشق: 2002.
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين