الزنى وكتاب الفطرة عند الإنسان والحيوان

الزنى وكتاب الفطرة عند الإنسان والحيوان

التصنيف: ركن الشباب
الاثنين، 22 جمادى الآخرة 1446 هـ - 23 ديسمبر 2024
54

هل حدث لأحدكم أن شاهد جريمة قتلٍ متعمَّدٍ تُرتكب أمام عينيه، والناس من حولها لا يستطيعون فعل أيّ شيءٍ لإيقافها؟


لقد شاهدت بنفسي مثل تلك الجريمة، وهي من الغرابة بحيث لو رواها لي أحدهم لما صدّقته ولربّما اتّهمته بالكذب، أو بالمبالغة لو أحسنت به الظنّ.


عندما كنت أقوم بخدمتي الإلزاميّة عام 1968 في جنوبي سورية؛ كان عليّ، كقائدٍ لفصيلِ في مخافر حراسةٍ متقدّمةٍ للحدود مع العدوّ، أن أمتطي حصاني لأتفقّد جنودي في مواقعهم الأماميّة، نظراً لسعة انتشارهم وتباعد المسافات بينهم. كانت تلك المنطقة الصخريّة من أرض حوران (1) أرضاً تنتشر فيها الحُفَرُ البركانيّة الرماديّة التي قد تضيق حتّى لا يتجاوز قطر إحداها متراً واحداً، وقد تكبر وتعمق حتّى تتسع لاستيعاب قريةٍ كاملةٍ، بسكّانها، وينابيعها، وقطعانها الكثيرة، ومراعيها الممتدّة.


وحدث مرّةً، وأنا أتنقّل على حصاني في وقت الظهيرة من نقطةٍ إلى أخرى، أن رأيت على مسافةٍ بعيدةٍ منّي عموداً هائلاً من الغبار يتصاعد من أحد تلك التجاويف الأرضيّة الكبيرة، يرافقه ضجيجٌ عالٍ لجمهورٍ من الناس تتناهى إليّ أصواتهم من بعيد، فحثثت المسير حتّى اقتربتُ وأشرفتُ على المكان، وإذا بالمنظر أمامي ينكشف من قاع ذلك التجويف عن مجموعةٍ كبيرةٍ من الرجال يحيطون بحمارَين اثنين أنشب أحدهما أسنانَه في رقبة الآخر بإحكام، ولم تنفع معه الحجارة والعصيّ العديدة التي كانت تنهال عليه من كلّ جانب محاوِلةً إنقاذ الحمار المسكين من بين براثنه.


كانت الدماء تسيل من أنحاء جسده من أثر الحجارة والعصيّ، ولكنّ ذلك لم يمنعه من الإصرار على المضيّ في تنفيذ جريمته، فظلّ مُحكِماً فكّيه على رقبة غريمه طويلاً، إلى أن رأينا الدم يتفجّر فجأةً من تحت أسنانه كالنوافير، بحيث أصاب الدم بعض مَن حوله من الرجال، ولكنّه ظلّ، مع ذلك، وبتصميمٍ غريب، ممسكاً برقبة الحمار الضحيّة بقوّةٍ وعناد، حتّى انهارت قوى هذا الأخير، وسقط إلى الأرض بلا حراك، وانتفض انتفاضته الأخيرة وهو يجود بآخر أنفاسه ودمائه. عندها فقط أرخى الحمار القاتل فكّيه، ونزع أسنانه عن رقبة القتيل، ثمّ تركه ومضى في طريقه بثقةٍ وكبرياء، وكأنّ شيئاً لم يكن، رغم الدماء التي كانت تسيل، هو أيضاً، من رأسه وجسده.


لم أصدّق ما تراه عيناي! لقد كانت جريمة قتلٍ كاملة، وعن سابق عمدٍ وإصرار، بكلّ ما تحمله كلمة "جريمة" من معنىً. واقتربت بحصاني من الموقع، وسألت شهود الجريمة من الرجال: ما هذا الذي حصل؟ إنّها جريمة قتلٍ حقيقيّة! أيّ حقدٍ يكنّه هذا الحمار القاتل لهذا الحمار المقتول!


ووقع الجواب عليّ وقع الصاعقة: إنّها ليست المرّة الأولى التي يحاول فيها قتلَهُ يا سيادة الملازم. لقد سبق أن انفرد به مرّةً وحاول أن يقتله، ولكنّنا وصلنا في الوقت المناسب وأنقذناه منه. للأسف، لقد تأخّرنا هذه المرّة ولم ننجح بإنقاذه.


ولم يزدني جوابهم إلّا حيرةً وإبهاماً. حتّى بدأ أحدهم يقصّ عليّ قصة القاتل والمقتول.


لقد كان للحمار القاتل أتانٌ دأبَ على معاشرتها لزمنٍ طويل، فهو لا يعرف غيرها ولا تعرف غيره. وحدث أن ألمّ به مرضٌ شديدٌ استطال أمدُه، حتّى قلّ طعامه، واستنفد قوّته، وفقد أكثر من نصف وزنه، فكان أن استضعفه الحمار القتيل، وتحيّن الفرص حتّى نزا على أتانه. وحاول الحمار القاتل مرّاتٍ ومرّاتٍ أن يمنعه من الاقتراب منها، ولكنّه كان أضعف من أن يستطيع إيقافه.


ومرّ عامٌ أو عامان، وبدأ الحمار القاتل يستعيد عافيته، ويستردّ بعض وزنه وقوّته. وصادف أن انفرد بالحمار القتيل قبل بضعة أشهر، فحاول أن يَفتِك به مثلما فعل الآن، ولكنّه كان ما يزال أضعف من أن يتغلّب عليه، فضلاً عن أنّنا وصلنا لإنقاذ غريمه في الوقت المناسب. ولكنّه استمرّ يتعافى بعد ذلك، ويستردّ قوّته شيئاً فشيئاً، حتّى استعاد صحّته وثقته بنفسه، وبقدرته على "الثأر لشرفه"، فكان أن تمكّن من غريمه هذه المرّة.


لم يقرأ هذا الحمار عن قواعد العِرض والشرف، ولا عن مبادئ العفّة والإخلاص، ولا عن فقه الحلال والحرام، ولكنّ كتاب فطرته، وهو الكتاب الذي لا يُكتب، والذي وُلد معه حين وُلد، كان كافياً ليجعله قادراً على تمييز حقيقة أنّه مخلوقٌ ذَكَر، وأنّه لا بدّ أن يدافع عن أنثاه، وأن ينتقم لنفسه، ويثأر لشرفه، مُدركاً لحقيقةِ أنّ من يتجاوز حدوده في هذه المسألة الخطيرة لا بدّ أن يعاقب أشدّ العقاب، ربّما حتّى الموت!


إنّها قصّة الحيوان، مثلما هي قصّة الإنسان، فلكلٍّ منّا شريحة فطرته المزروعة بداخله، وتعاليمه الفطريّة التي تسري في عروقه ودمائه. وعلى ضوء هذه الحقيقة يمكن أن نفهم تأكيد القرآن الكريم أكثر من مرّةٍ على أن دين الله هو دين الفطرة:


- فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‎[الروم: 30]


وهكذا حمل كلٌّ منّا في جسده تطبيقاً ذكيّاً، مُذْ أن كان جنيناً يتكوّن في بطن أمّه، يقول له/لها: أنتَ رجلٌ فافعل كذا، أو لا تفعل كذا، أو: أنتِ امرأة فافعلي كذا، أو لا تفعلي كذا.


من أجل هذا حَرّمت الشرائع السماويّة كلّ ما يتعارض مع هذه الشريحة الفطريّة، الموجِّهة، والمرشِّدة، والمنظِّمة، لرغبات كلّ إنسانٍ، ولميوله، ولاتّجاه خطواته في هذه الحياة.


إنّها الشريحة التي تخبرنا، ونحن ندافع عن الخطأ، بأنّنا ندافع عن خطأ، حتّى إن تشبّثنا به وأصررنا عليه. إنّها هي التي تضيء لنا الضوء الأخضر عندما نهمّ بالخطوة الصحيحة، كالخِطبة أو الزواج مثلاً، وهي التي تضيء لنا الضوء الأحمر عندما نهمّ بالخطوة الخاطئة، كالزنى، أو الاقتراب من الزنى. هذه الإضاءات، بلونيها، هي بمثابة عاملٍ أساسيٍّ للحفاظ على البقاء، وعلى استمرار الوجود الإنساني طبيعيّاً ومعافى.


لقد صنّف القرآن الكريم الزنى على أنّه واحدةٌ من أعظم ثلاث كبائر عند الله، جنباً إلى جنبٍ مع الشرك بالله، وقتلِ النفس، ومرتكبوه هم ممّن يضاعَف لهم العذاب في الآخرة، إلّا لمن تابوا من بعد ذلك وآمنوا، وحَسُنَ إيمانُهم، وصدقت توبتُهم:


- وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ‎﴿٦٨﴾‏ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ‎﴿٦٩﴾‏ إلّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ‎﴿٧٠﴾ [الفرقان: 68-70]


من أجل هذا لم يكتف الإسلام بتحريم الزنى، بل دعا إلى اجتناب كلّ ما يقودنا إليه من محفّزاتٍ وأجواءٍ غير شرعيّةٍ، ووسائل إعلاميّة، وإعلاناتٍ، وبرامج، وعُريٍ، وأدواتٍ ثقافيّةٍ، ومظاهر اجتماعيّةٍ تملأ الأجواء من حولنا اليوم، وهو ما تؤكّده الآية القرآنيّة التي لم تكتفِ بتحريم الزنى، بل حذّرت من مجرّد "الاقتراب" منه، أو الانزلاق إلى ما يؤدّي إليه:


- وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32]


وحذّرتنا الشرائع السماويّة من أن نسمح لما أنعم الله به علينا من حواسّ؛ أن تنقلب إلى وسائل شيطانيّةٍ تؤدّي بنا إلى ارتكاب الزنى، كلٌّ على طريقتها، كما رأينا في الحديث النبويّ "فَزِنَى العَيْنِ النَّظَرُ، وزِنَى اللِّسَانِ المَنْطِقُ، والنَّفْسُ تَمَنَّى وتَشْتَهِي، والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلكَ أوْ يُكَذِّبُه"، وكما حذّر العهد الجديد أيضاً "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ".


ولأنّ الآثار المترتّبة على جريمة الزنى تتعدّى صاحبها إلى الأمّة كلّها، دينيّاً، واجتماعيّاً، وتربويّاً، وأخلاقيّاً، وصحّياً، كانت عقوبتها في الشرائع السماويّة شديدةً، ولا سيّما للمتزوّجين من الرجال والنساء. وربما زادت شدّةً عن عقوبة القتل، كما سبق أن عرفنا في حديثنا عن الحلال والحرام في الشرائع السماويّة، وقد أكّدت جميعاً على قبح هذه الجريمة، وشدّدت ونوّعت في أشكال عقوبتها:


- الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2]


- عن عبدِ اللهِ بنِ عبّاسٍ قال: قالَ عُمَرُ بن الخطّاب: "لقَدْ خَشِيتُ أنْ يَطُولَ بالنَّاسِ زَمَانٌ، حتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لا نَجِدُ الرَّجْمَ في كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بتَرْكِ فَرِيضَةٍ أنْزَلَهَا اللَّهُ. ألا وإنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ علَى مَن زَنَى وقدْ أحْصَنَ، إذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أوْ كانَ الحَبَلُ، أوِ الِاعْتِرَاف.. ألا وقدْ رَجَمَ رَسولُ اللَّهِ (ص) ورَجَمْنَا بَعْدهُ". [رواه البخاري]


- 23 إذا كانت فتاةٌ عذراءُ مخطوبةً لرجلٍ فوجدها رجلٌ في المدينة واضطجعَ معها 24 فأخرِجوهما كليهما إلى بابِ تلك المدينةِ وارجموهما بالحجارةِ حتّى يموتا. [تثنية: 22: 23-24]


- 20 ولكنّي أعتبُ عليك لأنّك تتحمّلُ المرأةَ إيزابيل التي تَزعُمُ أنّها نبيّةٌ وتُغري عبادي، فتُعلّمُهم أن يّزْنوا ويأكلوا من ذبائحِ الأصنام. 21 وأمهلتُها مدّةً لتتوبَ ولكنّها ترفضُ أن تتوبَ مِن زِناها. 22 لذلك سأطرحُها على فِراشِ الآلام، وأُلقي الذين يَزنون معها في ضيقٍ شديد، إنْ كانوا لا يتوبون من فسادِ أعمالِهم. 23 وأَقتُلُ أولادَها قتلاً، فتَعرفُ الكنائسُ كلُّها أنّي أفحصُ الأكبا
دَ والقلوبَ وأعطي كلَّ واحدِ منكم على قدْرِ أعمالِه. [رؤيا يوحنّا: 2: 20-23]


ولا نجد عقوبة الرجم للزاني أو الزانية صريحةً واضحةً في القرآن الكريم، فليس فيه إلّا عقوبة الجلد {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}، على حين نجد عقوبة الرجم تتكرّر، واضحةً ومفصَّلةً، في أحاديث نبويّةٍ عديدة. ولا يعني هذا أيّ تناقضٍ بين النصّين القرآنيّ والنبويّ، كما قد يتوهّم بعضهم. لقد عوّدنا القرآن الكريم أن يُجمِل القول في معظم عباداته وأحكامه، كما في أحكام الصلاة والصوم والحجّ والزكاة، وعوّدنا الحديث النبويّ أن يفصّل ما أجملَه القرآن الكريم. وكما أجملَ كتابُ الله عقوبة المرأة الناشز فجعل أعلى درجاتها الضربَ بقوله تعالى "واضربوهنّ"، وفصّلها النبيّ (ص) فمنع ضرب النساء "لا تضربوا إماء الله" وحصره في حالاتٍ محدّدةٍ واستثنائيّة، فضلاً عن أنّ ضرب التأديب ليس حدّاً من الحدود مثل الرجم والجلد والقطع، بل مجرّد وسيلةٍ تربويّةٍ مرنةٍ يمكن أن تتغيّر مع الزمن وتتطوّر مع تطوّر الحياة، ومع تطوّر الأدوات التربويّة، كما سبق أن فصّلنا القول، هكذا أجمل القرآن الكريم عقوبة الزنى، فلم يفصّل القول في تبيان درجاته، ولم يبيّن الفرق بين أنواع الزناة، ليأتي الحديث الشريف بعده ويفصّل القول في هذا الأمر، فيخصّ عقوبة الجَلد بغير المُحصَن من الرجال أو النساء، ويخصّ عقوبةَ الرجم بالمُحصَن أو الثيّب.


الزنى، ومبدأ التوبة


إنّه قانونٌ فطريٌّ عامٌّ في تركيبة المخلوق البشريّ، فضلاً عن الحيوانيّ، أن يغار الذَّكَرُ على أنثاه، وأن يدافع عنها، وأن يشعر بواجبه نحوها لحمايتها من أذى العابثين. وكذا الأمر مع الأنثى. من أجل ذلك تضاعفت عند الله عقوبةُ الزاني، من الرجال أو النساء، وهو محصَن، لأنّ الجريمة هنا ليست في حقّ الله، فحسب، بل في حقّ العباد أيضاً، وهي خيانةٌ مريرةٌ للشريك أو الشريكة اللذين تمّ الزنى من ورائهما، دعك من الآثار الصحّية والاجتماعيّة الخطيرة التي تتسبّب عنه. من أجل هذا أجمعت الشرائع السماويّة على عقوبة الرجم حتّى الموت، وإنّ خفّفها الإسلام إلى الجلد لغير المحصَنين.


ومع ذلك، ومع هذا التشديد المطلق في عقوبة الزنى، سواءٌ للمحصَنين أو غير المحصَنين، فقد سنّ الإسلام قانوناً سماويّاً آخر موازياً لهذا القانون، هو قانون التوبة.


إنّه يفتح الباب أمام كل مذنبٍ ليتوب عن ذنوبه، فيغفر الله له هذه الذنوب أيّاً كانت، ويبشّر عباده المؤمنين برحمته وعفوه، وبغفرانه لذنوبهم، مهما عظمت:


- قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزُّمَر: 53]


ونفهم من أكثر من آيةٍ، ومن أكثر من حديثٍ نبويٍّ، أنّ قبول التوبة من العبد عند الله لا حدود لاتّساعه مهما عظم الذنب، كما يوضّح لنا الحديث السائر عن ذلك الرجل الذي قتل مائة نفس ثمّ أراد في النهاية أن يتوب، فتاب الله عليه:


- عن أبي سعيدِ الخُدْريِّ أنّ النبيَّ (ص) قال‏:‏ ‏"كان فيمَنْ كان قبلَكم رجلٌ قَتَلَ تِسعةً وتِسعين نفساً، فسألَ عن أعلمِ أهلِ الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال‏:‏ إنّه قَتَلَ تِسعةً وتِسعين نفساً، فهل له مِن توبة‏؟‏ فقال‏:‏ لا. فقَتَلَهُ فكَمَّلَ به مائةً. ثمّ سَألَ عن أعلمِ أهلِ الأرض، فدُلَّ على رجلٍ عالِمٍ فقال – أي فذهبَ إليه فقال له –‏:‏ إنّه قَتَلَ مائةَ نفسٍ، فهل له مِن توبة‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، ومَن يَحُولُ بينَه وبينَ التوبة‏؟‏ انطلِقْ إلى أرضِ كذا وكذا، فإنّ بها أُناساً يَعبُدون اللهَ تعالى، فاعبُدِ اللهَ معهم، ولا تَرْجِعْ إلى أرضِكَ فإنّها أرضُ سوء. فانطلقَ، حتّى إذا نَصَفَ الطريقَ – أي كان في منتصفه -؛ أتاه الموت، فاختصمَتْ فيه ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذاب‏. فقالت ملائكةُ الرحمة‏:‏ جاء تائباً مُقْبِلاً بقلْبِهِ إلى اللهِ تعالى، وقالتْ ملائكةُ العذاب‏:‏ إنّه لم يَعْمَلْ خيراً قطّ! فأتاهم مَلَكٌ في صورةِ آدَمِيٍّ فجعلوه بينهم – أي حَكَماً –، فقال‏:‏ قِيسُوا ما بينَ الأرْضَين، فإلى أيّتِهما كان أدنى فهو له (وفي روايةٍ: فأَوحَى اللهُ إلى هذهِ – أي الأرض – أنْ تَقَرَّبي، وأَوحَى إلى هذهِ أنْ تَباعَدي)، فقاسُوا فوجدوه أدنَى إلى الأرضِ التي أراد، فقَبَضَتْهُ ملائكةُ الرحمة‏"‏. [متّفق عليه]


إنّ الذنب الوحيد، والعظيم، الذي لا يمكن أن يغتفره الله لأحدٍ هو أن يُخلّ الإنسان بمبدأ التوحيد، ولو إخلالاً خفيفاً، فتهتزّ وحدانيّة الله عنده، ويجعل له شريكاً. فهناك، وهناك فقط، يتوقّف القانون الإلهيّ للغفران عن العمل، ويقع العقاب الإلهيّ الأبديّ على من يُشرك بالله أحداً سواه، ما لم يَتُب قبل الموت:


- إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48]


وقد سبق أن عرفنا كيف خاطب النبيّ (ص) زوجته السيّدة عائشة في حديث الإفك، حين أشاع عنها رؤوسُ المنافقين في المدينة أنّها زنت مع صفوان بن المُعطَّل حين عثر عليها في الطريق وقد نسيها الجيش حيث كانوا يعسكرون، والتهمة هنا هي لامرأةٍ مُحصَنٍ أوّلاً، وزوجةٍ لنبيّ أوّلاً وثانياً، فلم يَعْدُ النبيّ الزوج (ص) أن قال لها حين تناهت إلى أسماعه شائعاتُ المنافقين بحقّها:


- "يا عَائِشَةُ، فإنَّه بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وكَذَا، فإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً؛ فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وإنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وتُوبِي إلَيْهِ، فإنَّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ؛ تَابَ اللَّهُ عليه". [متّفق عليه]


هذه العبارة النبويّة تلخّص لنا في كلماتٍ قواعدَ التوبة في الإسلام، ومعها الموقف النهائيّ العامّ للإسلام من عقوبة الزنى. ومع ذلك فإنّ موقف المجتمع الإنسانيّ من الزانية بشكلٍ عامّ، أيّاً كان هذا المجتمع، يبقى دائماً أشدّ إنكاراً بكثيرٍ من موقفه من الزاني، وهو أمرٌ تفسّره الطبيعة المختلفة، والبعيدة في مداها ونتائجها، للتغيّرات الفيزيائيّة التي تطرأ على جسد المرأة نتيجةً لفعل الزنى.


فبعيداً عن الآثار العديدة، والخطيرة، التي يسبّبها الزنى لكلا الشريكين، وللمجتمع كلّه من حولهما، فإنّ العمل الجنسيّ لا يغيّر، فيزيائيّاً، شيئاً ذا بالٍ في جسد الرجل، ولكنّ الأمر عند المرأة مختلفٌ تماماً.


لقد رأينا عند حديثنا عن الحجاب أنّ جسد المرأة كلّه، في عينَي الرجل، بمثابة غشاء بكارةٍ تفتضّه أعين الناظرين إليه إذا كشفَتْه لهم. وفضلاً عن ذلك؛ فإنّ التغيّرات التي تصيب جسد المرأة بالعمل الجنسيّ قد يترتّب عليها حملٌ وولادةٌ، وما قد يرافقهما أو يتلوهما من آثارٍ وتبِعاتٍ وتغيّراتٍ جسديّةٍ واضحةٍ تُفصح لمن حولها بحقيقة ما جرى.


وحين يحدث أن تلتصق صفة الزنى بامرأة، فمن شأن هذه الصفة أن تتّخذ شكل ذاكرةٍ جماعيّةٍ ممتدّة العمر، وتؤدّي إلى ارتداداتٍ نفسيّةٍ عميقةٍ لدى المرأة، أوّلاً، ولدى من يتعامل معها من الرجال والنساء أيضاً. وفي ظلّ مجتمعٍ فطريٍّ يؤمن بأساسيّة العفّة والطهارة للمرأة، فإنّها تجعل الرجل، وكذلك المرأة، ينظران إلى صاحبتها، تلقائيّاً وفطريّاً، على أنّها فقدت صفتها كامرأةٍ كاملة، وغدت "نصف امرأةٍ" أو أقلّ من ذلك بكثير.


أمّا البغيّ فتهبط درجة أنوثتها في نظر الرجل هبوطاً مريعاً. إنّها، وفقد فقدت، بعينَيْ فطرته، عفّتها، ومعها قدرٌ كبيرٌ من حيائها، واحتجابها، وأنوثتها، قد اقتربت، في انكشافها للآخرين، من أن تكون رجلاً، فلا تكاد تستثير لديه تلك الأحاسيس الجنسيّة التي يُفترض أن تستثيرها المرأة في نفوس الرجال.


إنّ هذا يفسّر لنا موقف معظم المجتمعات من هذا النوع من النساء. فنحن نسمع ونقرأ فيها عن المرأة الزانية أكثر بكثيرٍ ممّا نسمع ونقرأ عن الرجل الزاني. ويفسّر لنا هذا، أيضاً، امتناع معظم الرجال، في الشرق الفطريّ على الأقلّ، عن الزواج من امرأةٍ زانية، أو بغيٍّ، كما سبق أن فصّلنا. ونجد الرسول (ص) ينهى أحد صحابته يوماً، مع تأكيدٍ قرآنيٍّ، عن الزواج من امرأةٍ زانيةٍ أو بغيّ:


- عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو: "أنَّ مَرثَدَ بنَ أبي مَرثَدٍ الغَنَويَّ كانَ يَحملُ الأُسارى بمَكَّةَ – أي يعود بهم من مكّة إلى المدينة -، وَكانَ بمَكَّةَ بَغِيٌّ يقالُ لَها عَناقُ، وكانت صديقتَهُ – أي في الجاهليّة -. قالَ – أي مَرثَد -: جِئتُ إلى النَّبيِّ (ص) فقُلتُ: يا رسولَ اللَّه، أنكِحُ عَناقَ – أي هل أستطيع أن أتزوّجها -؟ قالَ: فسَكَتَ عنِّي، فنزلَتْ: {والزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} – وتمام الآية: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]. – فدعاني، فقرأَها عليَّ وقالَ: لا تَنكِحْها". [رواه أبو داود، وصحّحه الألباني]


ومن الواضح أنّ آية سورة النور أعلاه لم تفرّق بين مرتبة الزاني ومرتبة الزانية، فنصّت صراحةً على أنّ "الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً"، فكلاهما سواءٌ أمام الله في هذه الأحكام. ومع هذا، فلو انتقلنا إلى النفوس البشريّة؛ لوجدنا الناس، شئنا ذلك أم أبينا، يتقبّلون توبة الزاني إن تاب، ولو بعد حين، ولا يتقبّلون توبة الزانية إن تابت، وإلى ما بعد الممات.


ورغم مبدأ "التوبة" التسامحيّ الفريد في الإسلام، ورغم قبول التوبة وقبول العفو عن المذنب حتّى في جرائم القتل الكبرى، ورغم تأكيد هذا المبدأ مراراً في القرآن الكريم والسنّة النبويّة، وكذلك تطبيقه على الأرض في الحياة العمليّة، سواءٌ على يد النبيّ (ص) نفسه، أو على أيدي الخلفاء الراشدين بعده، فإن التقاليد كانت كثيراً ما تتغلب عند بعض المسلمين على أحكام الدين، حتّى في حياة الرسول (ص)، كما عرفنا في قصّة سعد بن عُبادة عند حديثنا عن (شخصيّة المرأة بين الدين والتقاليد).


كانت الأحكام في العرف القبلي، وما تزال، تنطلق، أوّلاً، من قواعد الشرف المعمول بها في القبيلة. فالمرأة في مفهوم هذه المجتمعات هي العِرض، والشرف، والكرامة، ورفع الرأس بين الناس، وإذا تلوّثت سمعتها تلوّثت سمعة الأسرة، وربّما القبيلة، واهتزّت مكانتها أمام القبائل والأسَر كلّها.


وكان الشرف يقضي بقتل الرجل الذي يحاول أن "يمسّ" أو "ينظر" أو "ينال" من زوجتي أو ابنتي أو أختي ولو بكلمة. على حين نرى الشريعة تقضي بعدم إقامة حدّ الرجم أو القتل إلّا بإثبات حدوث الزنى الحقيقي، وبشهادة أربعة شهودٍ للواقعة، ومع تأكّد هؤلاء الشهود بشكلٍ واضحٍ من أنّ "المِرْوَدَ دخلَ المِكْحَلَةَ" كما في نصّ الحديث. ويقام حدّ القذف، وهو ثمانون جلدةً، على الشهود الثلاثة إذا لم يتقدّم الشاهد الرابع معهم للشهادة، أو إذا تَردّد في هذه الشهادة، أو إذا أظهر في آخر لحظةٍ أيّ شكّ في أنّه رأى، وبوضوح، وبكلّ التفاصيل المطلوبة، واقعة الزنى.


كلّ هذا يجعل من مسألة إقامة الحدّ على الزناة أمراً نادر الوقوع. فأين يمكن أن تجد هذين الزانيين اللذين يستهينان بخطورة هذا الفعل، بحيث يتجرّآن على استعراض نفسيهما، ويتيحان الفرصة لكلّ هؤلاء الشهود لرؤية ما يفعلان؟ وأنّى لهؤلاء الشهود، مع ذلك، أن يروا كلّ هذه "التفاصيل الدقيقة" في وضعيّةٍ للزانيين قد لا تسمح للعيون، ولا للكاميرات الخفيّة، برؤيتها؟


إنّ هذا يقودنا إلى حقيقةٍ أخرى هامّةٍ في الشرع الإسلاميّ، وهو أنّ لخطيئة الزنى جانباً آخر قد يكون أخطرَ بكثيرٍ من الجريمة نفسها، وهو جريمة الجهر بالزنى وإعلانِه أمام الناس.


أحمد بسام ساعي



(1) وقع هذا الحادث على مقربة من بلدة (جاسم) بمحافظة درعا.



تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

مقالات ذات صلة

رمضان بين التضييع والاستثمار
الأربعاء، 23 شعبان 1439 هـ - 9 ماي 2018رمضان بين التضييع والاستثمار
 قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «هذا رمضان قد جاءكم، تُفتح فيه أبوابُ الجنة...
أحكام فقهية مهمة عن رمضان يجدر أن تتعلمها النساء
الأحد، 30 شعبان 1437 هـ - 5 جوان 2016أحكام فقهية مهمة عن رمضان يجدر أن تتعلمها النساء
    1.     يجب تبييت النِّيَّة كل ليلة قبل طلوع الفجر عن كل يوم من ...
ترى كيف يتخاطب الإسلاميون بعضهم مع بعض - تقويم للخطاب الإسلامي الإسلامي...
الأربعاء، 12 شوال 1430 هـ - 30 سبتمبر 2009ترى كيف يتخاطب الإسلاميون بعضهم مع بعض - تقويم للخطاب الإسلامي الإسلامي...
بعد يوم مليء بالزيارات المتعددة لشتى التجمعات الإسلامية قررت أن أكتب هذه الخاطرة هدفها توص...