زادك الله قبولًا وعزًا:
أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وَمَا زَادَ اللَّهُ رَجُلًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا " (1). إن خشي العافي مَذَلَّتَه بعفوه، أتاه هذا الحديث يبشره، بأن عزتك محفوظة بل زادك الله عزًا، اللهم إلا في قاموس السفهاء الأوغاد الذي يعدون العفو ذلًا، والصفح عارًا، فتلك سنةٌ إلهية، وبشارةٌ نبوية، وما كذبتا قط!
لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا حتى يذلوا وإن عـزوا لأقـوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة لا صفح ذل ولكن صفح إكرام(2)
بل إن العافي بِعَفوهِ يجعل نفس خصمه عونًا عليه، ويرى أن العافي فوقه، خاصة وأن عقلاء القوم لا يرتضون سفاهته، فيوبخونه ثم يذكرونه بربه، ويحذرونه من مغبة فعله، فيأتي مع تراخي الأيام تائبًا معتذرًا، اللهم إلا إن كان سفيهًا أو جاهلًا، ففي البعد عنهم سلامة وخير ومغنم !
فأجره على الله:
قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] إن الناس في مقابلة الأذى منازل ثلاثة: عادلٌ يأخذ بقدر حقه، ومحسن يعفو عن حقه، وظالم يأخذ فوق حقه، وقد آوت الآية المنازل الثلاثة، ففاتحتها للعادلين، وأوسطها للمحسنين، وختامها للظالمين، فمن استوفى حقه فهذا منتهى رتبة الصالحين، ومن عفا فهذا اختيار الصديقين، أما من ظلم فهذا بغي لا يختاره إلا الأرذلون(3).
وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: " يُنَادِي مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ، مَرَّتَيْنِ، فَيَقُومُ مَنْ عَفَا عَنْ أَخِيهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} (4) !
إن وسام " فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ" لا يوازيه شيء؛ ذلك أن ما عند الله للعبد جزاء عفوه؛ خيرٌ مما يختاره لِنَفسِهِ، بَلِ المقارنةُ فَاسِدَةٌ إي وربي !
أعد الله أجرًا لمن عفا وأصلح، أما من عفا دون إصلاح فلم يفلح، كأن يكون المعفو عنه قاتلًا أو لِصًّا، فإن الأصلح هنا القصاص؛ لئلا يترتب على العفو مضرة، فيظلم المرء نفسه أو غيره(5) !
نصيحة إمام:
سكب الفضيل بن عياض في قلبك نصحًا ذهبيًا مفاده:
إذا أتاك من يشكو إليك رجلًا فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني ربي، فَقُلْ له: إن كُنتَ تُحسِنُ أن تنتصر، وإلا فَعُد إلى باب العفو؛ فَإِنَّهُ بابٌ واسعٌ، وإن من عفا وأصلح فأجره على الله، ثم ينام لَيْلَهُ بسكينة، أما صاحب الانتصار فيقلب الأمور، وإن الفتوة هي العفو عن الإخوان !
عفو من الله ومغفرة:
مر بنا أن من غَفَرَ ذنب أحبابه إخوانه، وتجاوز عن زلات أعوانه وجيرانه، غفر الله له وأحبه، واجتباه وَقَرَّبَه، وهذا حق، فإن الله يجزي العبد من جنس عمله، فإن غفر لغيره غفر له، وإن أحسن للخلق أحسن الله له، وإن تجاوز عن سيئاتهم تجاوز الله عنه، وإلا فمن السفاهة أن تطلب أمرًا من ربك، وتأباه لغيرك !
ومن تأمل هذه السحابة والمنة علم أن ظُلْمَ الناس لك؛ رفعة في درجتك، وتكفير عن سيئتك !
ولذا؛ فالنصيحة إليك يا أخي بلسان الإمام الماوردي:
ينبغي لك أن تستلطف النفوس بالمياسرة والمسامحة، وأن تتألفها بالمقاربة والمساهلة، بل كن أحسن حديث يُنْشَر؛ يكن سعيك في الناس مشكورًا، وأجرك عند الله مذخورًا(6) !
لذةٌ غامرة، وسعادةٌ عامرة:
وهذه أَجَلُّ مِنَّةٍ إلهية، ونعمة ربانية، حاضرة قُبَالةَ عينيك !
فإنَّ العفو عنوان السعادة، والشرف والسيادة؛ ذلك أن العافيَ سعيدُ الروح والقلب، لا يشكو الهم والوصب، ولا الغم والنصب، صَيَّرَ همه سرورًا، وحَزَنَهُ سعادةً وحُبورًا، أما من آثر الانتقام فقد أنهكته الغموم، فهو من الحزن مكظوم !
ولئن سألت عن العافين لِمَ سَعِدُوا؟:
قلت: إن من عَفَا حفظ وقته، وسكن قلبه، وهدأ باله، وصفا حاله، فلا يغزوه هم ولا غم، ولا حزن ولا ألم، بل يحفظ وُدَّ إخوانه، وأرحامه وجيرانه، ويعلم الله تعالى أن التغافل عن سيئات الناس نِعْمَةٌ كُبرَى، وَمِنَّةٌ عظمى، وفي لغة العامة: "إن أردت أن تعيش؛ فَعَليكَ بالتطنيش" !
ثم إن العافي عن منتهكي عرضه أو ماله، يرى بِعَيني قلبه الأجر الذي أعدَّهُ الله له، وأن الله يحبه لإحسانه، قال الله عزَّ وجلّ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]، فضلًا عما حرسك الله به لمَّا أمرك بالعفو وأنت وحدك، ثم أمر الأمة كلها أن تعفو عنك(7)، وبعفوك وعفوهم تنجو أنت من أضرارٍ محتملة، فَكَم ذَهَبَتْ بالانتقام نفوسٌ وأموال، وعلاقاتٌ وأعمال، ما كانت لِتَذهبَ بِالعَفو، فمن الرابح إذن؟!
أخي الكريم: إنَّ من صفات الله تعالى أنه يُخْفِي عن الناس سيئاتِك الكثيرة، ويُظْهِرُ لهم حسناتِك القليلة، إحسانًا منه وفضلًا، أفلا تقتدي بمنهج ربك، ويكون لك أصلًا؟! لِمَ تَقُومُ الدنيا إذا أُهِينَ شَخصُنَا، وَقَلَّ أن نُحَرِّكَ ساكنًا إذا انْتُهِكَت حُرُمَاتِ رَبنا؟! ألا تنتصر على هواك؛ طاعةً للذي فَطَرَكَ وَسَوَّاك؟! فاستحضر أُخَيَّ إيمانك، وَاعْفُ عَن إخوانك، {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] !
فهبني مسيئاً كالذي قلت ظالماً فعفوٌ جميل كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن للعفو أهلاً لسوء ما أتيت به جهلًا فأنت لـه أهـل
أخي:
أبثُّ لك بشرى بلسان ابن القيم:
إنَّ من وافق اللهَ تعالى في صفةٍ من صفاته؛ قَادَتْهُ تلك الصفة إليه بِزمامه، فَأَدخَلَتْهُ عَلَى رَبِّه، وأَدْنَتْهُ مِنْهُ، وَقَرَّبَتْهُ من رحمته، وَصَيَّرتْهُ مَحْبُوبًا له، فَإنَّه سبحانه رحيمٌ يحب الرحماء، كريمٌ يحب الكرماء، عليمٌ يحب العلماء، حَيِيٌّ يحب أهل الحياء، جميلٌ يحب أهل الجمال، وِتْرٌ يحب أهل الوتر، شكورٌ يحب الشاكرين، محسنٌ يحب المحسنين، عَفُوٌّ يحب العافين عن الناس(8) !
(1): مسند أحمد، رقم الحديث: (9008).
(2): الأبشيهي / المستطرف ص (419).
(3): النسائي / عشرة النساء للنسائي ص (132).
(4): البيهقي / شعب الإيمان، رقم الحديث: (8313)، (6/315).
(5): اللهيميد / إيقاظ الأفهام في شرح عمدة الأحكام (3/38)، ابن عثيمين / شرح رياض الصالحين (1/636).
(6): الماوردي / أدب الدنيا والدين ص (440).
(7): هذه الجملة مقيسة على استباط للشيخ الشعراوي. تفسير الشعراوي (1/57).
(8): ابن القيم / الجواب الكافي ص (44).
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين