بين حِصار الشِّعب وحصار غزة

بين حِصار الشِّعب وحصار غزة

التصنيف: حاضر العالم الاسلامي
الجمعة، 12 ذو القعدة 1446 هـ - 9 ماي 2025
85

في نهاية السنة السابعة من بعثة النبي صلى الله الله عليه وسلم فرضت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم حصاراً اجتماعياً واقتصادياً قاسياً استمر ثلاث سنوات، وكان شرطهم لفك الحصار عنهم أن يُسلِّموا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، ووثقوا ذلك في صحيفة وختموها بثمانين ختماً وعلقوها في الكعبة تأكيدا على قدسيتها وعدم التفكير في نقضها، وقد اشتد الحصار على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه حتّى أنفق أبو طالب والنبي صلى الله عليه وسلم مالهما، كما أنفقت خديجة أموالها الطائلة في هذا الحصار الظالم، وبلغ من شدة الحصار أنهم أكلوا ورق الشجر من شدة الجوع، وكان بكاء الصبية الصغار يُسمع من بعيد من شدة جوعهم، وكان أحدهم إذا قضى حاجته يضع كما تضع البعير، وتذكر بعض الروايات أن أحد الصحابة خرج ليلةً والجوع يطحنه، فتحرك شيء من تحته أرضًا، فالتمسه بيده، فإذا هو قطعة من جلد بعير، فأخذها من فرط قسوة الجوع، فغسلها بالماء، وأحرقها، ثم كسرها، وسفّها بالماء، ولم يكن يصلهم شيء من الطعام والشراب إلا ما يتسرب سراً من بعض المتعاطفين معهم مع طول أمد الحصار.

واستمر الحصار حتى تحركت النخوة والإنسانية في قلب هشام بن عمرو الهاشمي فجمع خمسة معه من زعماء قريش وأقنعهم بضرورة فك هذا الحصار الظالم رغم تعقد المهمة واستحالتها حتى جاء أحد الخمسة وهو زهير بن أبي أمية فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، وتتابعت الحوارات والجهود حتى انتهى الحصار الظالم المفروض على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه.


مفارقات بين الحِصاريْن:

هذا الحصار القديم يذكرنا بالحصار الحديث المفروض على غزة، والواقع أن حصار أهل غزة أشد قسوة وظلما من حصار الجاهلية وذلك من وجوه أهمها: طول أمد حصار غزة 18 عاما من الحصار والتجويع، و18 شهرا من حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وتهجير أهل غزة من أرضهم مع قصر مدة حصار الشِّعب 3 سنوات فقط، ومنها: أن حصار الشِّعب لم يصاحَب بحرب وقتال كما في حصار غزة، وإنما اقتصر على الحصار الاقتصادي والاجتماعي فقط، ومنها: أنه لم تكن هناك وسائل إعلام تفضح قريشا وقتها وتردعهم عن فعلهم الشنيع كما هو الحال الآن حيث يتابع العالم شرقا وغربا لحظة بلحظة وعلى الهواء المذابح والمجازر الظالمة المستمرة على أهلنا وإخواننا في غزة، ومنها: أن المحاصَرين في الشِّعب بين مئة أو مئتين والمحاصَرين في غزة أكثر من مليونين، ومنها: أن النخوة والشهامة تحركت في قلوب خمسة نجحوا بصدقهم وعلو همتهم في فض الحصار، والعالم اليوم عاجز عن إنشاء تحالف إنساني يغيث غزة ويدخل لها الغذاء والدواء ويوقف حرب الإبادة الظالمة، ومنها: أن مشاهد قسوة العالم وفقدان إنسانيته اليوم تبدو أعظم بكثير من قسوته في الجاهلية، فأين مشهد قتل ستة أبناء لرجل واحد من أهل غزة وصلاته الجنازة عليهم من مشهد بكاء الصغار جوعا في حصار الشعب؟ وهذا الحصار الظالم للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه في شِعب أبي طالب مقارنة بحصار وقتال أهل غزة اليوم يحمل لنا الكثير من الرسائل والعبر أهمها:


- الإغاثة والنصرة بين الفردي والجماعي:

توجب أحداث غزة علينا جميعا اليوم المسارعة إلى العمل المستدام لإغاثتهم ونصرتهم خاصة بحق المسلمين في أوروبا؛ فعندما تضيق الأمور على المسلمين في منطقة تتجه الأنظار إلى إخوانهم الذين يتمتعون بحرية نسبية مقارنة بهم ويترقبون ما يقومون به نحوهم، ونحن بحاجة إلى الجمع بين الجهد الفردي المطلوب من كل واحد منا وبين الجهد والعمل الجماعي، واستشعار كل فرد المسؤولية الإسلامية والإنسانية تجاه إخوانه تدفعه إلى التفكير في المبادرة الفردية لتحريك المجتمع والناس لفعل شيء لنصرة المستضعفين في غزة، وإذا لم تحركنا النخوة والشهامة والفطرة الإنسانية فلتحركنا الموجهات الشرعية كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ" (البيهقي بسند صحيح).


- أهمية المبادرات الفردية:

تحرك هشام بن عمرو لفك حصار الشِّعب ونجح، فأين أمثال هشام في عالمنا اليوم، أهمية فعل هشام في المبادرة وعدم اليأس وإحكام الخطة، فقد أحسن التأتي للخمسة الذين اختارهم بعناية لمهمة تفكيك الحصار وفضح قريش وكشف شناعة فعلهم بين القبائل، ونحن بحاجة إلى التفكير في تجديد صور المناشط والأعمال المحركة للناس وإخراجهم من حالة الفتور التي أصابتهم مع طول أمد الحرب، وربما كانت فكرة تبدو بسيطة كرسم أو صورة أو قصيدة أو موقف تحرك الناس وتوقظ ضمائرهم كما فعلت المغربية ابتهال أبو السعد، وكما نجح أبو طالب في إحداث زلزال سياسي في مكة بقصيدته اللامية الشهيرة ومطلعها:


ولما رأيت القوم لا ودَّ عندهم ** وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد حالفوا قوما علينا أظنة ** يعضون غيظا خلفنا بالأنامل



- تحريك غير المسلمين للنصرة ومكافأتهم:

من الواجبات المهمة على المسلمين في الغرب إيقاظ الإنسانية في قلوب الأوروبيين وتحريكهم لإغاثة أهل غزة ونصرتهم، ومكافأة من أحسن وبادر منهم وهم كثر، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كل من آووه وآزروه فترة الحصار أو تحركوا لفكه فقال في عمه أبي طالب: "هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" (البخاري)، وأما هشام بن عمرو فقد أسلم، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم معركة حنين دون المئة من الإبل، وأما أبو البختري فقد كان في صف المشركين يوم بدر فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، وأما المطعم بن عدي فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر من المشركين: "لو كان المُطعِم بن عدي حياً، ثم كلَّمني في هؤلاء لتركتهم له" (البخاري).


- ضرورة الصبر والثبات لتحقيق الغايات الكبرى:

أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالصبر والثبات ليتحقق لهم التمكين والفوز بالجنة فقال:" (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214)، وقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 142)، وكما كانت عاقبة الصبر والثبات على حصار الشِّعب إلى خير فانتشر خبر الحصار في موسم الحج وتعاطفت القبائل مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه وبعد انتهاء الحصار أقبل الناس على الإسلام وكانت محطة مهمة في خير كبير للدعوة الإسلامية في هذه المرحلة، وكذلك ثبات وصبر أهل غزة رغم شدته وعظم الثمن الذي دُفع إلا أنه سيؤول إلى خير كبير إن شاء الله، شريطة الوعي والسعي، وصدق الله العظيم حين قال: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216).


بقلم: د. خالد حنفي

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

مقالات ذات صلة

الاسلام على مفترق طرق - محمد بن عمر بن سالم بازمول
الأربعاء، 12 شوال 1430 هـ - 30 سبتمبر 2009الاسلام على مفترق طرق - محمد بن عمر بن سالم بازمول
يرى المسلم في هذا العصر اختلافاً كثيراً حيثما وجّه وجهه، سواء في باب مسائل الفقه من عبادات...
مرجعيّة - قيم الإسلام تناسب الإنسان ، وتلائم فطرته ، وتقدّم أساساً سليماً لتطوّره
الأربعاء، 12 شوال 1430 هـ - 30 سبتمبر 2009مرجعيّة - قيم الإسلام تناسب الإنسان ، وتلائم فطرته ، وتقدّم أساساً سليماً لتطوّره
  مرجعيّة " القِيَم " عند المسلم   منذ القرون الإسلاميّة الأولى بحث...
تعريف بركن حاضر العالم الإسلامي - رسالتنا
الأربعاء، 12 شوال 1430 هـ - 30 سبتمبر 2009تعريف بركن حاضر العالم الإسلامي - رسالتنا
ركن : حاضر العالم الإسلامي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في تو...