إلى أهلنا الكرام في سوريا الحبيبة، نبارك لكم استعادة هذه القطعة المباركة من أرض الشام من براثن البغي والظلم، ونسأل الله جل وعلا أن يحل بأرضكم السكينة والطمأنينة والأمن، وأن يتم عليكم نعمه.
ورسالتي إليكم في نقاط :
أولها: التذكير بدوام شكر الله تعالى على ما منّ به عليكم من النصر، والفرج من تلك الكروب العظيمة، والخروج من تلك العقود الكئيبة المظلمة، فبشكر النعم تدوم، وبكفرها تزول.
وثانيها: التذكير بفضائل أرضكم، ويضيق المقام عن الآثار في ذلك، لكن ما تواتر من فضائل الشام ومناقب أهلها كثير وغير خاف، وهذا يحمّل أهل الشام أمانة عظيمة للقيام بما أنيط بهم للتحقق بتلك الفضائل والمناقب.
وثالثها: التأمل في أسباب تسلط المجرمين عليكم، والسعي لتلافي تلك الأسباب، التي منها الغفلة عن الله والغفلة عن تسلل الطغيان وتركه حتى يتمكن وتقوى مخالبه وأنيابه، بالرغم من قلة الطائفة الباغية وذلتها.
ومن تلك الأسباب تصدع قلاع حماية الدين والفضائل وضعفها، وهي مدارس علوم الدين، فهي مصانع الرجال، ومصادر تثبيت الإيمان، ونشر أنوار الإسلام، وحراسة الأخلاق والفضائل، فبعد أن كانت الشام منارة للعلم، وفيها عاش أئمة عظام من أئمة الإسلام بدءا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أهدوكم الإسلام وغرسوا في أرضكم المباركة شجرته الباسقة وسقوها بدمائهم، وأثمرت بعلومهم وعبادتهم، ثم توالى على الشام الأئمة من السلف فمن بعدهم، ومنهم جلة من التابعين وتابعيهم، وحين استقرت العلوم في مدارسها العظيمة، في الفقه والعقيدة كان للشام حظا وافرا من ذلك الميراث العظيم، ولم تزل الشام بلاد رباط وعلم وعبادة، ولم يزل أهل الشام يُعرفون بنسكهم ورقة أفئدتهم ورجاحة عقولهم ولطف معشرهم، ولم يزل في الشام من أكابر أهل العلم نجوما في جميع العلوم، ومِن شتى مدارس السنة الفقهية والعقدية.
ومرت قرون متطاولة والشام قلعة من قلاع العلم والإيمان، وبعدها ضعف العلم وتهاوت أركان مدارسه ومعاقله وساد الجهل، والتبست البدعة بالسنة، بل والتبس المسلم الحق بالباطني الذي ينبذ الإسلام، وينابذ المسلمين العداء، ويكن لهم الحقد الدفين، ووصل في غفلة أهل الإسلام إلى مواقع القوة والنفوذ ثم استبد بالحكم، وسام المسلمين سوء العذاب، وما كان لمثل هذا الأمر أن يتم في جيل مؤمن يقظ غيور.
وها أنتم اليوم وقد منّ الله عليكم، وأعاد إليكم أرضكم، فأعيدوا إليها مجدها العلمي، واعمروها بالخير والفضائل وتعاونوا على بناء أسباب العيش الكريم، الذي يليق بهذه البقعة المباركة وأهلها الطيبين.
وافخروا أنكم أهل التوحيد، ومنكم تعلم الناس العلم والإيمان، وكنتم بصدق توكلكم على ربكم وصبركم وثباتكم وثقتكم بالنصر من أكابر أهل التوحيد في زماننا، ولستم بحاجة لمن يعلمكم توحيده الذي شابه الغلو، وتلبدت سماؤه بسوء الفهم وضيق العطن في العقائد والأحكام، والجفاء في الأخلاق والسلوك، وصبغت الأرض بالحمرة في مواطن كثيرة من آثار بغيه وغلوه، فلستم بحاجة لمن يلقنكم نواقض الإيمان التي اخترعها، أو شروط كلمة التوحيد التي ابتكرها، فقد كان أجداد هؤلاء يأتون للتتلمذ على أجدادكم، فما كان من خير لديهم فمما تعلموه منكم، وما كان من بغي وغلو فمما قصرت عنه أفهامهم، وغلب عليه جفاء طبائعهم. فلستم بحاجة لمن يلبس عليكم دينكم أو يفرق كلمتكم أو يبذر بذور البغي والعدوان والتكفير والتضليل في أرضكم التي باركها ربها.
وقد كان من حسن تدابير الله بكم أن رأيتم بأعينكم أنموذجا واضحا من ذلك التوحيد المغشوش وذلك الفكر المعوج، فرأيتم ما صنعته داعش في أرضكم مِن صنوف البغي وتعويق الجهاد وبث الفتن، وإشغال المجاهدين عن عدوهم، حتى جاء الفتح نقيا من تلك الطائفة الباغية، وفكرها الغالي، فاحمدوا الله أن بصّركم ومايز صفوفكم عن صفوفهم، وأن يسر لكم العودة إلى أرضكم، ووحدوا كلمتكم ورصوا صفوفكم، واعتبروا بمن تنازع قبلكم من الإسلاميين في مصر وليبيا واليمن وكيف آل أمر نزاعهم إلى ذلهم وهوانهم، عندما غفلوا عن قول الله جل وعلا: (( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ))، فتنازعوا ففشلوا وذلوا .
ومَن جاءكم يعلمكم علوم ابن تيمية رحمه الله، فقولوا له: الشيخ تقي الدين مِن عندنا خرج، وفي ربوعنا درج، وقد محص علمه معاصروه من أجدادنا أئمة الدين في الشام فأقروه على صحيحه، واعترفوا بفضله وسعة علمه، وردوا عليه ما تفرد به من شذوذ في الأحكام، أو توسع في الخوض في العقائد، مما لم يخض فيه السلف، وجاء حنابلة الشام من بعد ابن تيمية رحمه الله، فعظموه وأشادوا به، لكنهم لم يتابعوه في غرائبه، ابتداء بطلابه المقربين كابن مفلح ومن معه إلى آخر حنابلة الشام.
وحنابلة الشام هم أدرى الناس بابن تيمية رحمه الله، وبما يؤخذ من علمه وما يُترك، لذا لا تجد منهم من اعتمد تدريس رسائله العقدية على أنها متون منهجية، بل عدوها رسائل قيلت في ظروفها، فهي أشبه بالمناظرات والمنازعات الكلامية، وما هكذا تكون المتون المؤسِّسة للعقائد، والتي تبني الإيمان في نفوس الناشئة، وبقي الحنابلة يدرّسون متونهم العقدية السابقة لابن تيمية ك(اللمعة) للموفق و(النهاية) لابن حمدان، واللاحقة لعصر ابن تيمية ك(قلائد العقيان) لابن بلبان و(الدرة المضيئة) للسفاريني، وكأن ابن تيمية لم يقل شيئا، مع تقديرهم له اعترافهم بزهده وفضله.
ولم يُعهد أن دُرّست رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية العقدية ك(الواسطية) و(الحموية) و(التدمرية) على انها متون عقدية معتمدة، في معاقل الحنابلة في القاهرة ودمشق، وهم أهل المذهب الحنبلي وأدرى الناس بأصوله وفروعه، ومتونه وشروحه وحواشيه، ولم تُعتمد تلك الرسائل متونا عقدية إلا في الأزمنة المتأخرة، وفي بقاع نائية عن حواضر العلم، وينابيع المذهب الحنبلي، في بعض القفار والفلوات، التي من شأنها قلة العلم وكثرة الجفاء، والولع بالخصومات.
فيا أهل الشام لا يزايد عليكم أحد ببلديكم الإمام ابن تيمية؛ فأجدادكم أعلم به ممن كان حينها في غياهب الجهل والتخلف، ولا يزايد عليكم أحد بالتوحيد، فالشام بلد التوحيد ومعقل السنة منذ قديم الزمان، وفيها ما ينفع الناس من العلم المبارك والتاريخ الناصع والجهاد العظيم، ((فأما الزبد فيهب جفاءا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)).
واعلموا يا شباب سوريا أن كثيرا من الأنظمة المحيطة بكم والبعيدة عنكم يسوؤها أن تُرفع للإسلام راية في سوريا، أو أن يكون للأيادي المتوضئة دور في البناء وإصلاح البلد، وربما ألّبت تلك الأنظمة الغوغاء والحاقدين، وبقايا الحقبة السابقة للتشغيب والسعي في إفساد ما تحقق لكم من الفتح والنصر، الذي لم يتوقعه أكثر الناس، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة، وأمره غالب، وحكمه نافذ، ولو كره الناس أجمعون، وإذا أراد شيئا هيأ أسبابه، والمؤمن يرى إرادة الله في كل شيء، ولا تشغله الأسباب عن مسببها، ولا تُغفله الانتصارات عن مقدرها.
فكونوا على حذر، ولا تحمّلوا الفاتحين فوق طاقتهم، فقد ورثوا بلدا خُرّبت لعقود طويلة، وأنظمة فاسدة، وبُنى مهترئة، وفسادا ينخر في كل زاوية من زوايا البلد، وحكامكم الجدد لا يملكون الأسباب التي تمكنهم من التغيير في زمن قصير، لكنهم يملكون الصدق والأمانة والحرص على الإصلاح، هذا ما نظنه بهم ولا نزكيهم على الله، فقد بذلوا أنفسهم وهاجروا من ديارهم وقاسوا مرارات العيش لسنوات طويلة للوصول بكم إلى هذه اللحظة، وقد جاؤوكم برفع الظلم وإزالة الطغيان وتحرير عشرات الآلاف من المظلومين، وتخليص حرائر الشام من القهر والظلم والامتهان، والظن بهم أن يسعوا في إقامة العدل وبسط الأمن، والسعي في الإصلاح ما استطاعوا، فلا تكلفوهم فوق طاقتهم، ولا تستجيبوا لدعوات الفتنة؛ وهي آتية لا محالة، وليس الخطر في نعيق أهل الفتن، ولكن الخطر كله في استجابتكم لدعاة الفتنة، سيأتي من يعظكم في حقوق المرأة وقد كانت المرأة السورية، مستذلة مستباحة في سجون الأوغاد، ويأتيكم من يعظكم عن حقوق الطفل، وقد زج بالطفولة في سجون القهر، وشُردوا في البلاد، وحرموا أدنى أسباب العيش الكريم، ويأتيكم من يطالب برفاه العيش وقد كان يرضى من الطاغية بالفتات، ثم يسبح بحمده ليل نهار، ستأتيكم منظمات وهيئات تزعم أنها معنية بالحقوق والحريات وقد كانوا خرسا بكما صما لعقود متطاولة، وهم على دراية بما يمارس في حقكم من القهر والظلم والبغي.
وليكن لكم فيمن سبقكم من البلدان العربية عبرة، وانظروا كيف استُبدل الشر بالشر، والطغيان بالطغيان، والظلم بالظلم، وربما زادت الأمور سوءا عما كانت عليه قبل الثورات، عندما تسلل المال الخبيث واشتُريت به الأقلام والألسنة والمواقف، وجُنّد به المرتزقة، فدخلت تلك البلدان في فتن طالت، وعمت وأصمت، فكونوا على حذر، واعتبروا بمن سبقكم، ومن لم يكن له في غيره عظة صار للناس عظة، والظن بعقول أهل الشام أن تعي الأمور كما ينبغي.
وفقكم الله يا أهل سوريا وتغمد شهداءكم بواسع رحمته، فإن فاتتهم ساعة الفتح وفرحة النصر، فإنا نرجو أنهم قد رأوا من ربهم جل وعلا ما هو خير وأبقى.
ثبت الله أقدامكم، وجمع على الحق كلمتكم، وألهمكم رشدكم، وجعل فتحكم فاتحة خير على الأمة، وأصلحكم وأصلح بصلاحكم أمة الإسلام، والسلام.
عبد الرحمن البكري
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين