سلامة الصدر والحلم

سلامة الصدر والحلم

التصنيف: فقه الدعوة
الاثنين، 26 ربيع الآخر 1446 هـ - 28 أكتوبر 2024
189

سلامة الصدر:
إن من ألمع مناقب العافين عن الناس الرحمة بالأنام، وسلامة الصدر من حب الانتقام، فليس عندهم ضغائن، ولا دفائن، وإن غضب أحدهم فَبِلِسَانِه، ثم يعود إلى إحسانه(1)، شعاره دومًا:

وإن أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم ** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهـم ** وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا


ورحم الله الفضيل الذي قرع الأسماع بسياط وعظه قائلًا:

ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة صيامٍ ولا صلاة، ولكن بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة(2)!
بل إنَّ المرء لا ينجيه من مخاوف الدنيا وأهوال القيامة إلا سلامة الصدر، اقرأ في ذلك قرآنًا بالحق نزل: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89] !
وسبيل ذلك الاشتغال بصلاح النفس، والأمر في لغة أبي سليمان الداراني:
من اشتغل بنفسه شُغِلَ عن الناس
ومن اشتغل بِرَبِّهِ شُغِلَ عن نفسه وعن الناس(3) !

الحِلْم:
إن الحِلْمَ حارسُ الفضيلة، يحجز صاحبه عن المناقب الرذيلة، فلا يغضب ولا يعتب، ولا يصخب ولا يضرب، بل العفو ديدنه، والصفح بصحبته، ومن منَّ الله عليه بِحِلمٍ فقد آتاه خيرًا عميمًا، وكان فضله عليه عظيمًا !
فهذا رجلٌ يدعى ابن عياش أدمن شتم الرجل الصالح عمر بن ذر /، فلقيه عمر يومًا في طريقه فقال له شعارًا حُقَّ لك تعلنه لكل من أساء إليك، وظلمك وحرمك:
يَا أَخِي: لا تُفْرِط فِي شَتْمِنَا، وَدَع للصُّلْحِ مَوضِعًا
فإنَّا لا نُكافِئُ مَن عَصَى اللهَ فِينـَا؛ إلا أن نُطِيعَ الله فيـه !


ورحم الله الشافعي الذي تمثل الحلم قائلًا:

إذا سَبَّني نذل تزايدت رفعـة ** وما العيب إلا أن أكون مُسَابِبُه
ولو لم تكن نفسي عليَّ عزيزة ** لمكنتها من كل نذل تحاربه
(4)


أما إن تَعَسَّرَ عليك الحِلمُ فَأُهْدِيكَ خبرًا عجبًا يغرس الحلم في قلبك غرسًا، وهاكه:
تذاكر قومٌ أخبار معن بن زائدة وما هو عليه من وفرة الحلم، ولين الجانب، فتصدى أعرابي، وأقسم أن يغضبه، فوعده القوم بمائة بعير إن نجح في ذلك !
فانطلق الأعرابي إلى بيته، فعمد إلى شاةٍ له، فذبحها وسلخها ثم ارتدى جلدها جاعلًا باطنه ظاهره، ثم دخل على معنٍ بهيئته هذه، فوقف أمامه، وتارة ينظر إلى الأرض، وتارة أخرى إلى السماء، ثم قال:

أتذكر إذْ لحافُك جلد شـاة ** وإذ نَعْلاك من جلد البعيـر


قال معن: أذكر ذلك ولا أنساه يا أخا العرب ! فقال الأعرابي:

فسبحان الذي أعطاك ملكًا ** وعلمك الجلوس على السرير


فقال معن: سبحانه وتعالى، له الحمد والمنة ! فقال الأعرابي:

فلست مُسَلِّماً ما عشتُ حيًا ** على معـن بتسليم الأميـر


فقال معن: إن سلمت رددنا السلام عليك، وإن تركت فلا ضير عليك ! فقال الأعرابي:

سأرحل عن بلاد أنت فيها ** ولو جار الزمان على الفقير


فقال معن: إن أقمت بيننا فعلى الرحب والسعة، وإن رحلت عنا فَمَصْحُوبًا بالسلامة !
فقال الأعرابي وقد أعياه حلم معن:

فجد لي يا ابن ناقصةٍ بمالٍ ** فإني قد عزمت على المسير


فقال معن لوزيره: أعطه ألف دينار ! فأخذها الأعرابي وقال:

قليل ما أتيتَ بـه وإنـي ** لأطمع منك بالمـال الكثيـر
فثنِّ فقد أتاك الملك عفـوًا ** بلا عقـل ولا رأي منيــر


فقال معن: أعطوه ألفًا ثانية ! فتقدم الأعرابي إليه، وطلب عفوه وهو يقبل يديه ورجليه، قائلًا:

سألت الله أن يبقيك ذخـرًا ** فما لك في البرية من نظيـر
فمنك الجود والإفضال حقًا ** وفيض يديك كالبحر الغزيـر


فقال معن: أعطيناه على هَجوِنا ألفين، فأعطوه على مدحنا أربعة آلاف !
فقال الأعرابي: جُعِلتُ فداك، ما فعلت ذلك إلا لمائة بعير جُعِلَت لي إن أغضبتك !
فقال معن: لا خوف عليك ! وأمر له بمائتي بعير، نصفها للرهان، ونصفها الآخر له !
فانصرف الأعرابي داعيًا شاكرًا !


قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]، إن الله عزَّ وجلّ أثبت رتبة الأخوة بين القاتل والمقتول بقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ}، ولما كان القتل لا يقطع أخوة فأين أولياء الشياطين الذين أعدموا الأخوة لِنَظرةٍ تائهةٍ، أو كلمة تافهة ! وإليك أحدَهم:
قبل أيام كان أحد الشباب يستقل سيارته ومعه خطيبته، وقد عقد عليها نكاحًا قبل أيامٍ سبعة من الحادثة، وشاء الله أن يقع عتابٌ بينه وبين سائق دراجة نارية على إثر خلاف مروري، فما كان من صاحب الدراجة إلا أن أطلق الرصاص عليه، ومات الرَّجُلُ من فوره، وأمام مرأى خطيبته !


(1): عائض القرني / المقامات / المقامة السراتية ص (258).
(2): ابن الملقن / طبقات الأولياء ص (44).
(3): ابن كثير / البداية والنهاية (10/280).
(4): ديوان الشافعي ص (30).




تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

مقالات ذات صلة

من مواعظ الإمام سفيان الثوري
الاثنين، 1 ربيع الأول 1431 هـ - 15 فيفري 2010من مواعظ الإمام سفيان الثوري
اختيار الشيح  صالح الشامي 1- أصلحْ سَرِيْرَتَك يصلح اللهُ علانيتَك، وأصلح فيما...
واقع الأمة وحتمية الدعوة إلى الله تعالى
الاثنين، 1 ربيع الأول 1431 هـ - 15 فيفري 2010واقع الأمة وحتمية الدعوة إلى الله تعالى
 بقلم: د/ عامر حسين أبو سلامةإن الناظر في واقع هذه الأُمة، يجدها منفصلةـ في كثير من ا...
الكلام الطيب طريق الدعاة إلى القلوب
الاثنين، 1 ربيع الأول 1431 هـ - 15 فيفري 2010الكلام الطيب طريق الدعاة إلى القلوب
الأستاذ : أبو معاذ جاهوش أفضل سبيل لتحقيق هدف المتكلم - متحدثاً كان ، أو محاضراً ، خط...