سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ

سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ

تطالعنا بين الحين والآخر اجتهاداتٌ لغوية وتفسيرات لنصوص قرآنية، من أناس لاعهد لهم باللغة، ولا علم لهم بأسرارها، ولا لُــزُّوا إلى مضايقِها!

وابنُ اللبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستَطِع صولَة البُزلِ القناعيسِ

وإن تعجبْ فعجبٌ اجتراؤهم على ذلك اجتراءً لا يصدر عمَّن قضى عمره في صحبة اللغة، وأصفاها زهرة حياته، وتبتَّل قي محرابها متعلِّما ومعلِّما، وباحثًا ومؤلفا، ودارسا ومُدَرِّسًا.. فتراه إذا ما سئل من مسألة فيها عكف على معاجمها ومصادرها ومراجعها يستنبئُها ويستخبرها ويستيقن منها قبل أن يدلي بدلوه ويجتهد بحكمه!

وقد غرَّ هؤلاء فيما يبدو تخصصاتُــهم الدقيقة، ففيهم الطبيب.. وفيهم المهندس.. وفيهم الأستاذ الجامعي.. والفيزيائي.. والكيميائي..إلخ فإذا لاحت لأحدهم فكرة، أو زيَّنت له نفسُه تأويلا في نص من نصوص كتاب الله أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تراه يهرول وراءَ فكرته أو تأويله الباطل دون أدنى معرفة أو مراجعة لأصول اللغة والتفسير.. والناسخ والمنسوخ.. والعام والخاص.. والمطلق والمقيد..وأسباب النزول. وإنما هي العجلة والسرعة التي لا أساس لغوي لها، فتراهم يهرفون بما لا يعرفون، ويتطاولون على ما لا يحسنون، ويقولون ما لا يعلمون.

والناسُ مَنْ يلقَ خيراً قائلونَ لهُ ... ما يشتهي وَلأُمِّ الـمُــخْطيء الهَبَلُ

قَدْ يُدرِكُ الــمُــتَــأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وقَدْ يكونُ معَ الـمُستعجِلِ الزُلَلُ

فهذا أستاذ جامعي في كلية الهندسة يزعم أن البنين في قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ﴾ إنما هي البنايات! وكأن الإنشاءات قد غلبت عليه، دون أدنى حياء من الخليل بن أحمد وابن فارس!

وذاك أستاذ ثانوي للفيزياء يفرِّق بين الصوم والصيام دون أن يقرأكتابا في الفروقات اللغوية أو في فقه اللغة!

وذلك مهندس يزعم أنه وصل إلى رتبة مفكِّر! ثم يهجم بشراسة على أوضح كلمة في العربية وهي كلمة (عربي) لينزع عنها معناها المعروف، ويكسوها معنى آخر هي منه براء!

وكأن اللغة أصبحت حمًى مستباحًا لكل من شاء أن يعبث فيها وفي نصوصها وقواعدها وأحكامها.

والحقُّ أن اللغة علمٌ من العلم، إن لم تعطِها كلَّك لم تعطِك بعضَها، وَأَنْتَ إِذَا أَعْطَيْتَهُا كُلَّكَ مِنْ إِعْطَائِهِا الْبَعْضَ عَلَى غَرَرٍ! .

جرَّني إلى هذا الكلام ما كنت فيه من ذكريات الأساتذة الزائرين في دبلوم الدراسات العليا، إذ كان منهم أستاذٌ جليل عالم في اختصاصه، لا يشق له غبار، وهو الأستاذ الدكتور محمود الغول، الذي تابع دراسته بعد تخرجه في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًّا)، في معهد الدراسات الإفريقية والشرقية في جامعة لندن فدرس اللغات السامية وخاصة لغات جنوب جزيرة العرب، وحاز منها عام 1962 درجة الدكتوراه في اللغات السامية، ودرس أثناء ذلك على عدد من الأساتذة المعدودين، من أهمهم سيدني سميث وروبرت سارجنت Robert Sergeant. وله من المؤلفات والمحاضرات ما يشهد بعلوِّ كعبِه ومَكِــنَــتَــه في العربية وأخواتها.

وما زلت أذكر أنه خصص محاضرة من محاضراته للفعل المضارع في العربية – وكان شيخنا النفاخ حاضرا معنا فزاد المحاضرة جلالا وأهمية - فأشبعه بحثا، أي أشبع الفعل المضارع لا أستاذنا النفاخ، وفصَّله تفصيلا.. فراح يتكلم في اسمه ومعناه ودلالته وزمانه وما يدخل عليه وما لا يدخل عليه...، إلى أن ذكر أنه في استقرائه لاستعمال العرب لهذا الفعل لم يجدهم يجمعون له بين ظرف يفيد المستقبل وأداة تفيد الاستقبال، فلا يقال: (سأفعل غدًا) وإنما يقال (أفعل غدًا) لأن دلاة كلمة (غدا) على الاستقبال تغني عن إدخال سين الاستقبال، فإما أن يقال (أفعل غدا) وإما أن يقال (سأفعل) دون أن يتبع بـ (غدا).

وما كاد الأستاذ ينتهي من شرح فكرته حتى بادرتُــه بالقول: فأين هذا من قوله تعالى في سورة القمر: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾؟! فبُهِت المحاضر وبُهِتَ من حضر! بل أبْلَس ولم يُـــحِرْ جوابًــا.

فإذا كان الغول، وهو من هو، يخطئ في اجتهادٍ لغوي – ولعل له أجرا على خطئه - بعد طول دراسته وتمحيصه واستقرائه وبلائه، فما بالك بهؤلاء الذين لم يدرسوا اللغة ولم يعرفوا معجماتها ولم يخوضوا في غمارها؟؟!!

حُقَّ لنا والله أن نقول لكل منهم: "إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ".

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

مقالات ذات صلة

بيان مؤتمر العلماء الأول بدمشق - تاريخ 11-13 رجب 1357هـ
السبت، 29 ربيع الأول 1434 هـ - 9 فيفري 2013بيان مؤتمر العلماء الأول بدمشق - تاريخ 11-13 رجب 1357هـ
  الفكرة العامة الموجبة للمؤتمر        لما كان ...
ما أشبه الليلة بالبارحة - كلمة رابطة علماء سورية
الأربعاء، 12 شوال 1430 هـ - 30 سبتمبر 2009ما أشبه الليلة بالبارحة - كلمة رابطة علماء سورية
ما أشبه الليلة بالبارحة        كان بيان رابطة علماء بلاد ال...
تعريف بكتاب الجامعة الرمضانية للأستاذ عبد الله مسعود - صدور كتاب جديد عن رمضان
الأربعاء، 12 شوال 1430 هـ - 30 سبتمبر 2009تعريف بكتاب الجامعة الرمضانية للأستاذ عبد الله مسعود - صدور كتاب جديد عن رمضان
تعريف بكتاب الجامعة الرمضانية صدور كتاب جديد عن رمضان للأستاذ عبد الله مسعود. يقدم الأست...