هذا ليس من اختياري، ولن أرضى به.
هذا ليس من اختياري، ولكنّني سعيدٌ به.
إنّه الفرق بين المؤمن حقّ الإيمان بخالقه، وبحكمة خالقه، وبحبّه ورحمته لعباده، وبين غير المؤمن، أو ضعيف الإيمان بوجود هذا الخالق أصلاً.
كيف أعترض على إرادة من خلقني، وأرفض ما يريده لي، ثمّ أُصرّ بعد ذلك على أنّني مؤمنٌ؟
مؤمن، ولكن "بشروط"! ما الفرق في هذه الحال بيني وبين غير المؤمن؟ بل ما الفرق بين إيماني بالله، وإيمان إبليس به؟ أو بين شروطي واستثناءاتي على الله، وبين شروط إبليس واستثناءاته؟
عندما أقرأ قصص القرآن الكريم أحاول دائماً أن أستشفّ المغزى من كلّ قصّة، فمن المؤكّد أنّ هذه القصص لم تأتِ في كتاب الله بغرض التسلية.
وعندما أقرأ قصة تمرّد إبليس على الله، ورفضِه السجود لآدم حين أُمِر بذلك، لا أملك إلّا أن أتساءل: ما الدرس الذي أرادنا الله أن نستوعبه من تجربة إبليس؟ وهل هو بتلك الأهمّية الكبيرة التي تجعله تعالى يكرّره علينا في القرآن الكريم سبع مرّاتٍ؟ ولكنّ تساؤلي ينكمش ويتراجع حين أقرأ الحديث النبويّ:
- ".. لَوْ كُنْتُ آمِراً أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا". [رواه المنذري في الترغيب والترهيب، وصحّحه الألباني]
فما الرابط الذي يربط بين مغزى هذا الحديث، وبين مغزى الآيات التي تحكي لنا قصّة إبليس؟
كأنّ النبيّ (ﷺ) أراد أن يذكّرنا هنا بقصّة رفض إبليس للسجود لآدم، وأنّ من يعترض على الدور الذي أسنده الخالق إليه، رجلاً كان، أو امرأةً، أو ملاكاً، ويترفّع عنه، ويسعى إلى تغييره، لا يختلف في تمرّده، وربّما في مصيره، عن تمرّد إبليس ومصيره.
إنّنا في الواقع أمام حواريّتين أو مشهدين: قديمٍ سماويّ، وحديثٍ أرضيّ. ولا أرى فرقاً كبيراً بين الاثنين، إلّا أنّ وقائع الأوّل جرت قديماً في السماء، ووقائع الثاني تتكرّر اليوم، من جديدٍ، على الأرض.
الحواريّة السماويّة جرَت بين ثلاثة أطراف: الله تعالى، يَأمر ليُطاع، وآدم وإبليس، يؤمر الثاني أن يسجد للأوّل، وتكون النتيجة هي عصيان إبليس لأوامر السجود، وترفّعه واستكباره، وإخراجه من الجنة، وإلحاق اللعنة به إلى يوم الدين.
لم يَحدث أبداً أن أنكرَ إبليس وجود اللّه ووحدانيّته. كيف، وهو يقف أمامه في السماء يحاوره ويجادله ويرفض أوامره: بل إنّه يعترف بالله ربّاً وخالقاً لهذا الكون، ولا يخاطبه حين يناديه إلّا باللفظ "ربِّ":(1)
- قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿٣٦﴾ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ﴿٣٧﴾ إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴿٣٨﴾ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٣٩﴾ إلّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴿٤٠﴾ [الحِجر: 36-40]
ولم يكن ذنبُ إبليس إنكاره لثواب الله وعقابه، وتكذيبه بجنّته وناره، كيف وهو يعيش هناك في السماء، ويعرف تماماً ماذا يعني له عقاب الله؟ إنّه، وقد رأى أنواع العذاب هناك بأمّ عينيه، أشدّ إشفاقاً منّا على نفسه من ذلك العذاب:
- وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ ۚ وَاللَّـهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 48]
أمّا الحواريّة الأرضيّة فتجري، أيضاً، بين ثلاثة أطراف: الله تعالى في السماء، يأمر ليُطاع، والمرأة والرجل في الأرض، يسمعان فيطيعان.
المرأة تؤمر هنا بأن تكون اليد اليمنى للرجل، لا أكثر، إذ لا يصل مستوى الأوامر إلى حدّ طلب السجود له، كما في حالة إبليس، ومع ذلك، يرفض من النساء من يرفض، ويقبل منهنّ من يقبل!
ما الفرق بين المشهدين، إن كان هناك أيّ فرقٍ على الإطلاق، أكثر من أنّ الأوامر في المشهد السماويّ كانت تقضي بسجود إبليس لآدم، على حين تدنّى سقف هذه الأوامر في المشهد الأرضيّ لتكون مجرّد (مَن يتقدّم مَن؟) في مقاعد القيادة لهذه المَرْكَبة الفضائيّة المُبْحرة في السماء والتي نسمّيها (الكرة الأرضيّة)، وقد اقتصرت قمرة القيادة فيها على مقعدين اثنين: أماميٍّ أُعِدّ للطيّار (الرجل)، وخلفيٍّ أُعِدّ لمساعد الطيّار هي أيضاً (المرأة)؟
تسمع إحداهنّ أوامر صانع المركبة وهو يقول لها:
- وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة: 228] ويقول: وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة: 282]، ويقول: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ [النساء: 11]
ولكنّها، مثلما تمرّد إبليس وعصى ربَّه، تتمرّد وتعلن العصيان على الله: كيف ترفع الرجلَ درجةً فوق درجتي، وتمنحه نصيباً ضعف نصيبي، وشهادةً في المحكمة ضعف شهادتي، وتجعله قوّاماً عليّ، ومسؤولاً عنّي، وقائداً لي؟ ألسنا كلانا بشراً من لحمٍ ودم؟ إنّنا متساويان في كلّ شيء، رضيتَ بذلك يا خالقي أم أبَيت، ولْتصنع بي بعد ذلك ما تشاء أن تصنع. هكذا تقول في سريرتها، إن لم تقُلْه في علانيتها، بل كثيراً ما أصبح يتردّد علانيةً اليوم، ولمَ الخجل؟ ولمَ الخوف؟!
هل تجدونني مبالغاً في وصف هذا المشهد، ونحن نراه من حولنا ونسمعه كلّ يوم، مِن نساءٍ يأبَين الإصغاء لصوت الله، ويُصررن على مقاسمة الرجل مقعد القيادة الأماميّ، وعلى تَرْك مقعد القيادة الخلفيّ خالياً ومعطّلاً عن العمل، حتّى إن تعرّضت رحلةُ المركبة للخطر الأكيد، شاء من شاء، وأبى من أبى، ودعْكَ ممّا يقوله الله، ومن يؤمنون بكلام الله؟!
هل أكون بعيداً عن المنطق والواقع؛ إذا سمّيتُ هذه النزعة من التمرّد عند بعض النساء "عقدة إبليس"، مثلما قالوا من قبل "عقدة أوديب"، ذلك الإغريقيّ الأسطوريّ الذي تزوّج أمّه وقتل أباه؟
إنّه البرنامج السماويّ لاختبارنا نحن البشر، رجالاً ونساءً. فلن يدخل الجنّة إلّا من نجح في اختبار إبليس، ومارس على الأرض بشكلٍ عمليٍّ ما يؤهّله لدخول الجنّة. ولن يدخل النار إلّا من رسب في اختبار إبليس، ومارس على الأرض ممارسةً عمليّةً ما يجعله مستحقّاً لدخولها، فلا يكون في هذا محاباةٌ لأحد، ولا إجحافٌ بحَقّ أحد.
وتبعاً للتسلسل الإلهيّ لتاريخ البشريّة على الأرض؛ نتبيّن أنّ عصيان إبليس إنّما كان الحلقة الأولى، لا أكثر، من سلسلةٍ إبليسيّةٍ-بشريّةٍ من العصيانات والتمرّدات على أوامر الله وأحكامه على هذه الأرض، وأنّ لعنة إبليس، أو الشيطان، وكذلك مصيره، سيلاحقان مَن تَبِعَه مِن بني البشر، وسار على منهجه في التمرّد على أوامر الله ومخالفته إلى يوم القيامة.
أخيراً، ليسألْ كلٌّ منّا نفسه صباحَ مساء: هل أنا من أعداء إبليس؟ أم عضوٌ في نادي إبليس؟ أم إبليس نفسه؟ أم تفوّقت في الأبْلَسَة على إبليس؟
(1) كان أوّل من سمعته يتحدّث عن حقيقة إيمان إبليس بوجود الله ومحاورته له في السماء هو الفنّان يوسف إسلام (كات ستيفنز سابقاً) في محاضرةٍ ألقاها في طلّاب وطالبات أكاديميّة الملك فهد بلندن أواخر الثمانينيّات.
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين