اصبر واكظم غيظك:
أخرج الإمام أحمد في مسنده عَنِ ابْنِ عُمَرَ م قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جَرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ عزَّ وجلّ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى"(1).
علم النبي صلى الله عليه وسلم أن الخصومات تورث في القلب ألمًا وكمدًا، تظهر على الجوارح سخطًا وغضبًا، إلا أنه صلى الله عليه وسلم رَغَّبَكَ في كَظْمِ الغيظِ الذي يعني: أن تَضْبِطَ نفسك، وتتجرع الغيظ في جوفك كأنه دواءٌ مرٌ مرير؛ ابتغاء ما عند الله تعالى من الأجر الكثير، فإنه {مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، بل {يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] !
فتجرع الغيظ أخي محتسبًا، وتذكر ما قيل في منثور الحكم:
احتمالُ السفيهِ خَيرٌ مِنَ التَحَلِّي بِصُورتِهِ، والإغضاءِ عَنِ الجَاهلِ خَيرٌ من مُشَاكَلَتِهِ !
أعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِ السَّفِيه ** فكـلُّ مـا قـالَ فهـو فيـهِ
ما ضرَّ بحرَ الفراتِ يومًا ** أن خاضَ بَعْضُ الكِلاب فيه(2)
وحدثني من أثق بدينه أن شابًا من فلسطين ذهب إلى دولةٍ إسلامية يجمع مالًا لشعبه يستعينون به في بَلِيَّتِهِم، فَدَخَلَ على مَتْجَرٍ كبير، وَرَغَّبَ صاحبه في الإنفاق ابتغاء ما عند الله تعالى، فأخرج التاجر مالًا، وبدل أن يعطيه له، بصق في يده !
فاغتاظ الشاب، لكنه فطن أن بَلِيَّتَهُ في سبيل الله، فلا ينبغي له الانتقام لنفسه؛ إذْ أجره على ربه، فصبر وَكَظَمَ غيظه، وقال للبائع: عفا الله عنك، وغفر لك، لكني قبل خروجي أذكرك بأنَّ:
الصدقة أول ما تقع تقَع في يد الرب، فانظر ماذا قدمت، وأين وقعت؟!
فبكى صاحب المتجر، وأقسم على الشاب ألا يغادر إلا بعد أن يأخذ كل ما في متجره من مال !
فإن كظمت الغيظ فارتقب الأجر، فمن عرف أجور الأعمال، هانت عليه في كل الأحوال:
أورد السيوطي بسند حسنه الألباني من حديث ابن عمر م أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مَنْ كَظَمَ غَيْظَه وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَه أَمْضاهُ مَلأَ اللهُ قَلْبَهُ رِضًا يَوْمَ القِيَامَةِ " (3).
وأخرج أبو داود في سننه بسند حسن من حديث مُعَاذٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عزَّ وجلّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ " (4).
إن كاظم غيظه عن قدرة يملأ الله قلبه رضًا وأمنًا في ساحة القيامة، ثم يُخَيِّرُهُ ربُّهُ من الحور العين ما شاء، ذلك أنه تحمل ألمًا في سبيل الله؛ فأزال الله عنه آلام القيامة، فكان ثوابه من جنس عمله !
اقبل من جاءك معتذرًا:
يحسن باللبيب إن اعتذر إليه أخوه لِجُرمٍ مضى، أو تَقصيرٍ انقَضَى، أن يَقْبَلَ عذره، وَيُقِيلَ ذنبه، بل لكأنه لم يذنب، أولا ترى أنك حين تطلب عفو ربك، أنك تضيق ذرعًا لو خذلك وَرَدَّك؟! فلم تخذل إذن من جاءك معتذرًا؟! قال الشافعي:
اقبل معاذيـر من جاءك معتذرًا ** إن برَّ عندك فيما قال أو فجـرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره ** وقد أجلَّك من يعصيك مستترا(5)
ولك أسوة حسنة بالإمام الحسن بن علي م الذي قال: لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه، واعتذر في أُذني الأخرَى؛ لقبِلتُ عذرَه ! وقد بث إليك الأحنف نصحًا أخويًا جاء فيه: إن اعتذر إليك معتذرٌ فتلقَّه بالبشر !
وقد نظم محمد البغدادي شعرًا يؤكد ذلك فقال:
إذا اعتذر الصديق إليك يومًا من التقصير عُذرَ أَخٍ مُقِـرِّ
فَصُنْهُ عَن جفائك، واعـفُ فإن الصفح شيمة كل حُرِّ(6)
هل أنتم منتهون؟:
أخرج البزار في مسنده بسند حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِذَاْ ذُكِّرْتُمْ بِاْللهِ فَاْنْتَهُوْا "(7) !
إنها رسالة رائعة ماتعة، وجيزة جامعة، صادعة قاطعة !
إنها أقوى رسالة آواها بحثنا، فإن وعاها قلبك، ورآها طرفك فَكُنْ من فورك أول جنودها !
إذا كنت في أي خلافٍ، وعلى رأس أية خصومة، ثم ذُكِّرْتَ بالله فانتهِ دون تردد !
ألا ترى أن الصخور الجبلية إن ذكرت بالله تصدعت من خشية الله؟! فكيف لقلب من لحمٍ يفوق الصخور قسوة؟! وما ذاك إلا أن هيبة الله في القلوب قلَّت، والجرأة على محارمه زادت(8)، فأنى له أن يفقه عن الله ورسوله؟! أما من عَمُرَ الإيمان في قلبه، وغُرِسَ في لُبِّهِ، فإنه يكون وقافًا عند أوامر الله جلَّ وعلا !
وتأمل رحمك الله روعة هذا المشهد:
قدم عيينة بن حصن على ابن أخيه الحر بن قيس، فقال له: إن لك وجهًا عند عمر رضي الله عنه فاستأذن لي عليه، فاستأذن الحُرُّ فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: إيه يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر حتى هَمَّ أن يُوقِعَ به !
فقال الحر: إن الله عزَّ وجلّ قال لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، فو الله ما جَاوَزَهَا عمر حين تلاها عَلَيهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عند كِتاب الله(9) !
فقه مجتمع المثل:
إذا أدرك العبد أن مخالفه أَخُوهُ في الدين أو الإنسانية، فإذا انتقم منه خسره، وإذا عفا عنه ربحه، وإنَّ ربحه خير من الدنيا وما فيها، فإنه عندئذ يرى في العفو غُنْمًا، وفي الانتقام غُرْمًا !
إذا علم العبد أن دائرة الإخاء بين الأنام تتسع بالعفو، حتى يغدو المجتمع كالبنيان المرصوص، وأن دائرة العداء تتسع بالانتقام؛ حتى يصبح المجتمع في أحط الدركات؛ صار العفو ديدنه !
إذا أيقن العبد أن العفو سُلَّمٌ يعرج به إلى عز الدنيا ونعيم الآخرة، وأن الانتقام دركات يهوي بها إلى ذل الدنيا وأهوال الآخرة؛ أعلن العفو شعاره، وآثره دومًا على الانتقام (10).
(1): مسند أحمد، رقم الحديث: (6114)، (10/270).
(2): ديوان الإمام الشافعي ص (121).
(3): السيوطي / جامع الأحاديث، رقم الحديث: (696)، (1/433)، وقال الألباني: حسن.
(4): سن أبي داود، رقم الحديث: (4777)، وقال الألباني: حسن.
(5): ديوان الشافعي ص (60).
(6): ابن حبان / روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص (183).
(7): مسند البزار "البحر الزخار " (2/442) وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم الحديث: (546).
(8): هذه الجملة الأخيرة للشيخ خالد أبو شادي في كتابه / صفقات رابحة ص (5).
(9): الصلابي / عمر بن الخطاب ص (193).
(10): الشيخ محمد راتب النابلسي / دروس وعظية
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين