لمحة من مواقف الشيخ حسن حبنكة الميداني - رحمه الله - ضد البعث الغاشم

لمحة من مواقف الشيخ حسن حبنكة الميداني - رحمه الله - ضد البعث الغاشم

في عام ١٩٦٧ ميلادي وبعد أن رسّخ البعثُ أقدامه في سوريا من خلال استلامه كلّ المناصب العسكريّة والسياسيّة والإداريّة باسطاً يدَ الظلم والبطش، آكلاً لحقوق المواطنين ومصادراً لأملاكهم مِنْ خلال القوانين التي سَنَّها والتي تبيح له مصادرة أملاك أيِّ مواطنٍ تحت عنوان المصلحة العامّة أو تحت تهمة الإمبرياليّة وهي عبارةٌ كان يضحك قادة الحزب فيما بينهم عندما يقولونها كُلّما أرادوا أن ينالوا من كريم من كرام سوريّا! ( وهذه المعلومة قالها لي صديقٌ لي في بواكير مرحلة المراهقة وهو إبنُ أحد البعثيين الذين نالوا شرفَ تدمير سوريا! حيث قال على لسان والده أنّ البعثيين كانوا إذا استعصى عليهم أن يجدوا ما يتّهمون به إنساناً شريفاً لإيقافه عن العمل أو لمصادرة أملاكه فالحلُّ يكون باتهامه بإنّه إمبريالي و يتضاحكون فيما بينهم كما يتضاحك أفرادُ عصابات النهب والسلب! )
استشرى البعث في محاربة الناس في أرزاقهم ومناصبهم الإداريّة وأملاكهم، حتى وصلوا إلى محاربة الناس في دينهم بتَدرُّجٍ يحميهم من ردّة فعل الجماهير
ومن المواقف التي رفع فيها البعثيّون وتيرةَ محاربةِ الدين موقفٌ تطاول فيه صحفيٌّ واسمه إبراهيم خلاص بمقالةٍ في مجلة جيش الشعب (وهي مجلّة تصدُرُ عن إدارة التوجيه المعنوي والسياسي لحزب البعث) تطاول فيها على الذات الإلٰهيّة ومما جاء في هذه المقالة: إنَّ الله والأديان والرأسمالية والاستعمار ما هي إلّا دُماً محنّطةٌ يجب أن توضع في المُتحف.
أثّر هذا المقالٌ تأثيراً كبيراً على السوريين الذين كانوا تحت نير الظلم والبطش والخوف كاتمين غيظهم حائرين في أمر التعبير عن غضبهم، وكان هناك استعدادٌ وتأهبٌ من الحكومة البعثيّة بفروعها الثلاث ( وزارة الداخليّة، والجيش، ومقرّات الحزب المنتشرةُ في كلّ حيٍّ من أحياء سوريّا ) تحسُّباً من أي ردّةِ فعلٍ من الشعب السوري ).
في خِضَمِّ هذه الظروف الخطيرة صعد الشيخ حسن حبنّكة الميداني إلى منبره في جامع منجك في منطقة الميدان لأداء خطبة الجمعة وكان المسجد يغصُّ بالمصلّين وامتدّ حضورُ المصلّين حول المسجد في طريق الميدان القديمة يميناً ويساراً ومما قالتْه بعضُ التقديرات أن الناس اجتمعت عدّة آلاف قادمةً من كلّ أنحاء دمشق وقراها لتسمع وترى موقف الشيخ حسن من هذه الأزمة.
صعد الشيخ إلى المنبر متوجّهاً بخطابه إلى حكومة البعث غاضباً بحكمةٍ تمنع الفوضى فالشيخ كان شجاعاً في قول الحقّ، حكيماً في معالجة الخطأ، وقف رحمه الله على المنبر وقال ما معناه: إنّ رجلاً من رجالكم هاجم الذات الإلٰهيّة بمقالٍ نشره في مجلّتكم ( جيش الشعب ) وهذا تحدّي لله والشعب المؤمن، فلا تختبروا غضبنا فنحن لا نهاب أسلحتكم ولا قوّتكم، وتابع قائلاً إن كلامي أتوجّه به إلى أعلى رجلٍ في السلطة وصولاً إلى أصغر جندي، فالمجلّة التي تنشر هذا المقال هي مجلّة جيش الشعب، وأنتم وجيشكم تتقاضون رواتبكم من هذا الشعب وتعيشون من خيرات هذا الشعب وتدفعون ثمن أسلحتكم من الشعب الذي توجّهون أسلحتكم إلى صدور أبنائه، فاحذروا من غضبه فهذا الشعبٌ مؤمنٌ ولا مكان للإلحاد في دولته، واعتبروا من غيركم ممّن سبقكم بالتجبّر والظلم، واعلموا أنّني أكتم غضبي وأعاملكم بحكمةٍ تدفع عن البلاد شرّاً يصعبُ طيُّه، فأرواحنا وأموالنا وحياتنا في سبيل ديننا، حاسبوا هذا الملحد وارجعوا إلى الله، وتذكّروا أنّ الـ ي،،، ه،،، و،،، د،،، على حدودنا وامتحان أمّتنا يحتاج إلى صدق التعامل مع الله . انتهى
أقول: اختصرتُ هذه الخطبةَ بعرضِ مضمون ما جاء فيها كي لا أشُقَّ على القرّاء، ويحسُنُ أن أذكر حادثةً جرت أثناء الخطبة حيثُ وقف بعضُ رجال المخابرات الذين زرعَتْهُم الدولة بين المصلّين لإحداث الفتنة، وقفوا يُكبّرون بأعلى أصواتهم ليثيروا الفوضى بين الناس كي يعطوا الفرصة لجنود الدولة المسلّحين والذين يطوّقون الميدان بالأسلحة والدبّابات لينقضّوا على المصلّين فهي فرصةٌ للدولة لتمارس القتل والقمع والتنكيل، وما يتبع ذلك من فتنةٍ واعتقالاتٍ ودمار، فما كان من الشيخ إلّا أن صرخ بأعلى صوته مخاطباً هؤلاء الخونة قائلاً: اجلس يا بُنَي، اجلس، فهَدَأَ الناسُ في المسجد بعد أن أثارتهم تكبيرات المخابرات وكاد الموقف أن يخرج عن السيطرة، ثمّ التفَتَ الشيخ إلى المصلّين وقال: حذارِ من هؤلاء المُغرضين، وحذار من الغضب الغيرِ محسوب النتائج فالقويُّ مَن يمْلكُ نفسه عند الغضب.
عاد الشيخ إلى بيته بعد أن أدى صلاة الجمعة، وما هي إلّا دقائق وباب بيت الشيخ يُقرعُ ليدخل عشر ضباطٍ من دولة البعث ليقبضوا على الشيخ وكان دخولهم إلى بيت الشيخ بطريقةٍ ودّيةٍ وبعد لقاءٍ دام حوالي الساعتين تصاعدت معها الأحداث في حارات الميدان، وانتشر بعضُ المسلّحين من أهالي حي الميدان على أسطح البيوت العربيّة وبعضهم كان يحمل قنابل ليدافعوا عن الشيخ، فما كان من الشيخ إلّا أن وافق على الذهاب إلى وزارة الداخليّة بعد أن تعهّد له الضباط بأن زيارته ستكون لمقابلة وزير الداخلية والعودة خلال ساعات، إلّا أن الشيخ أدرك أن هذه الوعد كاذب وأنّه قَيْدُ الاعتقال، ولكنّه آثر أن لا يورّط جماهير المسلمين في صراعٍ دمويٍّ غير مُتكافئ، فودّع أهله ورفض أن يذهب في سيارات الضباط، وذهب بسيّارته الخاصّة هو وأخوه الشيخ صادق حبنّكة رحمه الله وابنه الدكتور محمد حبنّكة رحمه والذي تولّى قيادة السيارة وكان وقتها في السنة الرابعة في كلّية الطب البشري
تمّ اعتقال الشيخ كما كانت تقديرات الشيخ وأُودِعَ في سجن القلعة في نفس الغرفة التي سُجِنَ فيها ابنُ تيميّة، أمّا اخوه الشيخ صادق فقد أُوْدِعَ في دكّانٍ مُغلقةٍ تابعةٍ إلى أمن الدولة في منطقة الحلبوني في دمشق، وهي دكّان إسمنتيّة لا بلاط فيها ولا دهان ولا فرشٌ ولا كرسي، و أمّا ابن الشيخ الدكتور محمد فقد وُضِعَ في مهجع جماعي في القلعةِ، واستغرق هذا الحبس مدّةَ ٣٧ يوم حيثُ أطلِقَ سراحُ الشيخ وأخيه وابنه في اليوم الثاني لهزيمة حزيران لكي يتم تهدئة نفوس الجماهير الغاضبة من هذه الهزيمة الهزليّة ولكي يُغطّي الحزب الحاكم فشَله وخيانته وكذبه الذي خدع به الناس
ومِنْ غريب ما جرى أثناء اعتقال الشيخ من قِبَل العصابة البعثيّة التي كانت تحكم سوريا أنّ العصابة أرسلت رسالةً إلى جمال عبد الناصر تطلب منه نصيحةً في التعامل مع الشيخ حسن حبنّكة، فأرسل لهم رسالةً يقول لهم فيها: ألْحقوه بالسيد قطب، علماً أن الشيخ لم يكن إخوانياً!
بعد ذلك تمّت مصادرة أملاك الشيخ ( بيته ومزرعته، ومُنِع عن الخطابة إلى أن توفّاه الله ) وأذكُرُ وأنا صغيرٌ في ذلك الوقت وعمري ثمان سنوات أنّ موظّفين من الدولة وضبّاطاً جاءوا إلى بيت الشيخ وصادروا كلَّ أثاث البيت بلا استئناء، حتْى أنّهم أحصوا الملاعق والسكاكين والشُوَك، وكنّا نقف في فناء البيت نحن أبناء الشيخ وأحفاده ونهتف في وجه فريق المناضلين البعثيين! الذين جاءوا لممارسة نضالهم على الشيخ وأسرته!، كُنا نهتف ونقول: بعثيّه حرميّه، بعثيّه حرميّه، وكان الشيخ يقف بجوارنا وينظر إلى هؤلاء الأوباش مبتسماً ويقول لهم: لقد أنطقهم الله بفطرتهم فنحن لم نأمرهم ولكنّنا لن ننهاهم،
قصّةٌ طال عرضُها عليكم فاعذروني، وهي واحدةٌ من مواقف الشيخ، وقد اختصرت منها الحوار الذي دار بين الضباط والشيخ لحظة الاعتقال، واختصرتُ الحديث الذي دار في وزارة الخارجيّة واختصرتُ فيها ما دار بين الشيخ وعبد الكريم الجندي في سجن القلعة، وهو واحدٌ من رؤوس الشر في تلك الحقبة،


بقلم: د. وائل عبد الرحمن حبنّكة الميداني

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

مقالات ذات صلة

بيان مؤتمر العلماء الأول بدمشق - تاريخ 11-13 رجب 1357هـ
السبت، 29 ربيع الأول 1434 هـ - 9 فيفري 2013بيان مؤتمر العلماء الأول بدمشق - تاريخ 11-13 رجب 1357هـ
  الفكرة العامة الموجبة للمؤتمر        لما كان ...
ما أشبه الليلة بالبارحة - كلمة رابطة علماء سورية
الأربعاء، 12 شوال 1430 هـ - 30 سبتمبر 2009ما أشبه الليلة بالبارحة - كلمة رابطة علماء سورية
ما أشبه الليلة بالبارحة        كان بيان رابطة علماء بلاد ال...
تعريف بكتاب الجامعة الرمضانية للأستاذ عبد الله مسعود - صدور كتاب جديد عن رمضان
الأربعاء، 12 شوال 1430 هـ - 30 سبتمبر 2009تعريف بكتاب الجامعة الرمضانية للأستاذ عبد الله مسعود - صدور كتاب جديد عن رمضان
تعريف بكتاب الجامعة الرمضانية صدور كتاب جديد عن رمضان للأستاذ عبد الله مسعود. يقدم الأست...