ما عانى شعبٌ في الدنيا كما عانى الشعب السوري، وما لقي شعبٌ من الهوان والعذاب والتنكيل كما لقي الشعب السوري، وما طال زمنٌ من أزمان القهر والذل كما طال زمن القهر والذل عند السوريين؛ فقد لبثوا إحدى وستين سنة يعانون من أشرس طغاة عرفهم التاريخ، فما ترك هؤلاء الطغاة لونًا من ألوان العذاب إلا وصبُّوه صبًّا أليما فوق رؤوس هذا الشعب المقهور.
لقد سامُوه سوءَ العذاب قتلًا وسجنًا.. ومحقًا وسحقًا.. وتنكيلًا وتفظيعًا.. وتدميرًا وتدبيرًا.. وارتكابًا للجرائم واستكلابًا.. واستباحةً للحرمات واغتصابًا للبنات الطاهرات العفيفات..
ولعل أعظم خَسْفٍ وذُلٍّ وقع بهذا الشعب المسكين إنما هو الخوف والرعب، والإرهاب والترويع، والجَزَع والهَلَع والْخَرَعُ، ويقيني أنهم إنما أُتُوا من هنا.. وأن هذا الظالم الباغي إنما أتاهم من هنا، فقد قذف في قلوبهم الرعب قذفًا، وجعل يفتَنُّ في إظهار فتكه وحقده وإذلاله وإعناته، وينشره بكل وسيلة عبر فروع مخابراته وأجهزة إعلامه، ووسائل تواصله، وعبر المسلسلات والمسرحيات، والبحوث والكتب والمقالات، واللقاءات والحوارات، بل عبر المساجد، والكنائس، والمعاهد والمنابر.. الكل ينشر الرعب ويبعث الخوف في النفوس...
لقد مرًّ علينا إحدى وستون سنةً نقتات الخوف، ونتجرع الخوف، ونتنفس الخوف.. حتى بات الخوف إِلْـفًا لنا لا نكاد نعيش إلا به..
وكان أن نامت أعين الشعب المسكين المستكين عن مقاومة جلَّاديه، واستكان للذل والعار والخسف والشنار يقع عليه ثم لا يقاومه، بل يكاد يغمر رأسه في التراب كالنعام كلما طاف طائف من الإجرام به.
ويؤسفني أن أقول إن بعض المشايخ أسهم في نشر هذا الخوف، حتى إني قلت لأحدهم وقد غالى في المداهنة والنفاق لهذا النظام المجرم الخبيث: حضِّر جوابًا لله فإن الله سائلُك، وإنك تتحمل وأمثالك من شيوخ السلطة دماءَ آلاف الضحايا التي أريقت من هذا الشعب المسكين، فما كان جوابه إلا أن قال عندي الجواب جاهز، فهو من السياسة الشرعية الواجبة تُجاه أعتى نظام عرفه التاريخ، فهو يمتلك العتاد ونحن لا نملكه، ويمتلك القوة ونحن ضعفاء، وبيده مقاليد كل شيء ونحن لا حيلة لنا!
كذا قال الشيخ وهو الذي يَقرأ ويُقرئُ ليلَ نهارَ قوله تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
كذا قال الشيخ وهو الذي يَقرأ ويُقرئُ ليل نهار قوله ﷺ: "ما ترك قومٌ الجهاد إلا ذلوا".
كذا قال الشيخ وهو الذي يقرأ ويُقرئُ ليل نهار قوله ﷺ لمعاذ رضي الله تعالى عنه: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ»؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ».
أين نحن من الجهاد؟؟ وأين نحن من ذِروة سنام الدين؟!
إن السنام هو ذروة البعير وأعلاه، وسِمَن السنام عنوان على صحة البعير وقوته وخِصب مرعاه، وضعف السنام واضمحلاله يدل على ضعف البعير وقلة مرعاه وهكذا الأمة الإسلامية كلما قويت شوكتها سمنت ذروة سنامها، وكانت في أقوى ما تكون وأكمله. وإذا ما تضعضعت، ذاب السنام ولصق الجلد بالعظام، وهكذا ذروة السنام.
ومرةً أخرى يؤسفني أن أقول – وأنا الذي رُبِّيتُ في حجور المشايخ جزاهم الله عنا خيرا – لقد علمونا كل شيء في الدين إلا الجهاد، فلم يعيروه ما يستحق من أهمية، ولم يدرجوه في عداد دروسهم ومواعظهم وخطبهم، بل إن أحدهم ألف كتابا في الجهاد كاد يعطل فيه الجهاد، ويقلب المفاهيم ويسوقها في مصلحة الظلم والظالمين والطغاة المستكبرين!
واليوم فتح الله على المجاهدين من الشباب الذين صدقوا الله فصدقهم، ونصروا الله فنصرهم، وأيقنوا أن اللَّه جل وعلا هو النصير الذي ينصر عباده المؤمنين ويعينهم فهو القائل سبحانه:
﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾
﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾
﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾
إلى عشرات المواضع التي تحثُّ على الجهاد وتعد بنصر الله سبحانه.
ويقيني أننا لن نحافظ اليوم على ما منَّ الله به علينا من النصر والفتح إلا إن تمسكنا بفرض الجهاد، وهاهم إخواننا في غزة يُذلُّون اليهود بجهادهم وصبرهم ومصابرتهم، فالحرية تشترى بالدم، والشرف يُحاز بالبذل، والكرامة تُعطى بالتضحية.
لايسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى ** حتى يُراقَ على جوانبهِ الدمُ
وعلينا أن نواجه كل من تسوِّل له نفسه أن يعيدنا إلى عهد الظلم والظلام والقهر والذل والعار بالنفير العام والجهاد في سبيل الله إرغاما لأعداء الله، وسحقا لمخططاتهم، وإعلاء لكلمة الله سبحانه.
﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
الكويت
6 رمضان 1446ه
6/3/2025م
أ.د. محمد حسان الطيا
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين