مختارات من تفسير (من روائع البيان في سور القرآن) (الحلقة 266)

مختارات من تفسير (من روائع البيان في سور القرآن) (الحلقة 266)

التصنيف: واحة التفسير
الجمعة، 28 رمضان 1446 هـ - 28 مارس 2025
141

القسم الثاني من أسئلة آية آل عمران 14


﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَ‍َٔابِ﴾ [آل عمران: 14]


السؤال السادس:
ما دلالة مفهوم المال في القرآن؟


الجواب:


معلومات لغوية:
1ـ المال في الأصل ما يُملك من الذهب والفضة، ثم أُطلق على كل ما يُقتنى ويُملك من الأعيان.
وأكثر ما يُطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم.


2ـ ورجلٌ مالٌ، أي: كثير المال، وتموّلَ الرجلُ صار ذا مال، وموّل غيره تمويلاً.


معلومات عددية:
وردت كلمة ـ مال ـ في القرآن الكريم بصيغ مختلفة نحو: مالاً ـ الأموال ـ أموالهم ـ أموالكم ـ أموالاً ـ ماليه ـ في حوالي ـ 86ـ موضعاً.
كما وردت كلمة (دراهم) في موضع واحد، وكلمة (الذهب) في ثمانية مواضع، وكلمة (الفضة) في ستة مواضع.


المال في القرآن:
1ـ الإسلام يعتبر المال قوة كبيرة وعنصراً فعالاً في كل جهد من جهود المجتمع سلماً أو حرباً، ولهذا قدّم المال على النفس في كل أنواع الجهاد.


2ـ وكذلك في القرآن الكريم حيثما اجتمع ذكرُ المال والبنين قدّم المال على البنين؛ وذلك لأن:
آ ـ المال أظهر من الأولاد، فالمال يفخر به صاحبه، ولكن قد لا يفخر بأولاده إذا كانوا سيئين.
ب ـ المال هو الزينة أكثر من الأولاد، وزينة المال أوضح للناس من زينة الأولاد فهم يرون القصور والمراكب والمزارع والأنعام وغيرها أكثر مما يرون الأولاد.
ج ـ المال هو اللازم للزواج وتكاليفه، والزواج هو قبل الأولاد، فالمال أسبق.


3ـ لكنْ في آية التوبة111، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ﴾ [التوبة:111] قدّم الأنفس على المال؛ لأن بذل النفس أعز من بذل المال.


4ـ وضع الإسلام الأسس الواضحة في طرق اكتساب المال وفي طرق إنفاقه، وطلب منا أنْ يكون الكسب حلالاً طيباً، وألا يدخله الخبث حتى يبارك الله لنا في الكسب الطيب المبارك.


كما طلب في الإنفاق البعد عن التبذير والإسراف وإتلاف المال، بل طلب وحث على استعمال المال في أمور الخير المختلفة والصدقة والإنفاق في سبيل الله ومساعدة الفقراء والمحتاجين.


وهناك محطة لكل فرد في الآخرة يُسأل فيها عن موضوع كسب المال وطرق إنفاقه، كما ورد في الحديث الشريف «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: ... وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه»[الترمذي 2417].


والتجارة إحدى الوسائل الرئيسة في اكتساب المال، لذلك مطلوب أنْ تجعلها نظيفة حرة بعيدة عن الشبهات، بعيدة عن الربا، والاحتكار والغش والغبن والتغرير والخداع، وجاء في الحديث «أفضل الكسب كسب التجار، وهم الذين إذا قالوا صدقوا، وإذا وعدوا أوفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا».


5ـ ذكر الله تعالى في آية آل عمران سبعة من المشتهيات للناس وسماها زينة، وهذه الأمور السبعة قال الله عنها: ﴿ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ﴾ [آل عمران:14] أي: أنها مذمومة، لكنّ المطلوب الانتفاع بها على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة، وذلك هو الممدوح، ولا ننسى أنّ الزينة تتصف بسرعة الزوال.


6ـ المال مال الله: المال في القرآن الكريم وصف بأنه مال الله ﴿وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ﴾ [النور:33] وسمى الله المال الذي في أيدي الناس مال الله، وعندما يقول المرء (مالي ) كأنه يقول: ليس لي.


7 ـ المال أداة استخلافٍ، وسماه أيضاً أداة استخلاف للإنسان قال تعالى: ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ﴾ [الحديد:7].


8ـ سمي المال في القرآن الكريم خيراً، قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَيۡرًا﴾ [البقرة:180].

وقد امتدح النبي المال فقال ﷺ: «نعم المال الصالح للمرء الصالح» .[البخاري 299 وأحمد 17763]


وقد نُقل عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ أنّ أحدهم قال: حبذا المال أصون به عرضي، و أتقرب به إلى ربي .


9ـ الشكر: هل من علاقة بين الرزق و الشكر؟ الجواب: نعم، قال تعالى: ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ﴾ [إبراهيم:7]


10ـ الصدقة: هل من علاقة بين الرزق والصدقة؟ نعم يقول الرسول ﷺ: «استنزلوا الرزق بالصدقة» .[أخرجه ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (2/412) واللفظ له، والديلمي في ((الفردوس)) (281)]


11ـ إتقان العمل: هل من علاقة بين الرزق وإتقان العمل؟ نعم، قال رسول الله ﷺ: «إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه».[السلسلة الصحيحة 1113].


والملاحظ أنّ المتقنين من أصحاب الحرف هم وحدهم الذين يعملون في أيام الكساد، والأقل إتقاناً لا يجدون عملاً إطلاقاً، من أجل ذلك كان كل من الإتقان والأمانة والصدقة وصلة الرحم والشكر والاستغفار والصلاة والإيمان والتقوى أحد أسباب زيادة الرزق في القرآن والسنة.


12ـ من الأمثلة: الذين طبقوا هذا الكلام الصحابة رضوان الله عليهم ومن الذين طبقوه كذلك أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، الفقيه الكبير أكرم علمه و نفسه، وحزم أمره على أنْ يأكل من كسب يمينه، وهذه بطولة، أبو حنيفة النعمان الفقيه الكبير حزم أمره على أن يأكل من كسبه الحلال، وأنْ تكون يده هي العليا دائماً، وقد أيقن أنه ما أكل امرؤ لقمة أزكى ولا أعز من لقمة ينالها من كسب يده؛ لهذا خصص شطراً من وقته الثمين لكسب رزقه فاتجر بالخَزِّ؛ أي: بالقماش، و كان له متجر معروف يقصده الناس، فيجدون فيه الصدق في المعاملة، والأمانة في الأخذ والعطاء، وكانوا يجدون فيه أيضاً الذوق الرفيع، وكان يأخذ المال من حلِّه، ويضعه في محله، وكان كلمّا حال عليه الحول أحصى أرباحه من تجارته، واستبقى منها ما يكفيه لنفقته، ثم يشتري بالباقي حوائج القُراء وحوائج المحدِّثين، وحوائج الفقهاء وطلاب العلم وأقواتهم وكسوتهم .


أبو حنيفة النعمان الفقيه الكبير الذي ضرب للناس مثلاً أعلى في كسب الرزق، لذلك كان الإسلام عظيماً؛ لأنه منهج واقعي، ومنهج يتماشى مع الفطرة، ومنهج فيه عزة وكرامة.


السؤال السابع:
ما أهم الوقفات في هذه الآية وخاصة حول المشتهيات السبعة؟


الجواب:
1ـ قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ﴾ [آل عمران:14] من الزينة، أي: حُسِّنَ حُبُّ الشهوات؛ والزينة عادة مؤقتة تزول بسرعة.

والمعنى بشكل عام أنّ الله تعالى زين للناس حب الشهوات الجسمانية واللذات الدنيوية، لكنّ الشهوات فانية منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها.

والله سبحانه لم يُسمِّ فاعل ﴿زُيِّنَ﴾ [آل عمران:14] ليرشدنا أنه لم يحدد عُمُراً للزينة يموت بعده الإنسان، وإنما لكل إنسان عمره الخاص به وهو مبهم، وإبهام الموت هو البيان الكافي، ولذلك علينا ألا ننخدع بالدنيا .

من جهة أخرى علينا أنْ نعلم أنّ منهج الله يريد أنْ يُصعّد الخير لكل مؤمن، وإمكانات الإنسان في النعيم الدنيوي محدودة على قدر الإنسان، أمّا إمكانات النعيم في الآخرة فهي على قدر قدرة الخالق، لذلك من المنطقي أنْ يقول لنا: ﴿ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَ‍َٔابِ﴾ [آل عمران:14].


2ـ قوله: (لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:14] هو لفظ عام معرّف يفيد الاستغراق؛ لذلك هو حاصل لكل الناس.


3 ـ المشتهيات سبعة؛ وهي:
آ ـ ﴿ٱلنِّسَآءِ﴾: وبدأ بهن؛ لأنّ الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم، وأخفى فتنةَ النساء بالرجال ستراً لهن، كما أخفى أمر حواء في ذكر المعصية لآدم فقال: ﴿وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ﴾ [طه:121].

ب ـ حب الولد: وخص الذكور ﴿وَٱلۡبَنِينَ﴾ لأن التمتع بهم ظاهر.

ج ـ ﴿ٱلذَّهَبِ﴾ .

د ـ ﴿وَٱلۡفِضَّةِ﴾ .

والثالث والرابع محبوبان؛ لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء، فمالكهما كمالك جميع الأشياء، والقنطار كان في القديم علامة الثراء، وهو ملء جلد الثور ذهباً حجماً، وبعد ذلك جعلوه وزناً.

وقول ﴿ٱلۡمُقَنطَرَةِ﴾ أي: المضاعفة، وهي أيضاً للتأكيد كقولك: ألف مؤلفة، وظل ظليل.

هـ ـ ﴿وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ﴾ أي: المعلمة المدربة ذات الهيئة الحسنة، والخيل لفظ لا مفرد له، وسميت الخيل لخيلائها .

و ـ ﴿وَٱلۡأَنۡعَٰمِ﴾: وهي جمع نَعَم، وهي الإبل والبقر والغنم.

ز ـ ﴿وَٱلۡحَرۡثِۗ ﮰ﴾: الزرع وأرض الزرع لأنها أصل.

وهذه الأمور السبعة قال الله عنها: ﴿ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ﴾ أي: أنها مذمومة، لكنّ المطلوب الانتفاع بها على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة وذلك هو الممدوح.


4ـ قوله: ﴿وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَ‍َٔابِ﴾ المآب هو المرجع، وقيل هو قسمان: الجنة وهي غاية في الحُسن، والنار وهي خالية من الحُسن .


السؤال الثامن:
ما الارتباط بين هذه الآية وما سبقها من آيات تتحدث عن الجهاد في سبيل الله؟


الجواب:
هذه الآية جاءت بعد الآية التي تتحدث عن الجهاد في سبيل الله، وهي قوله تعالى: ﴿قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ﴾ [آل عمران:13].


وذلك ليرشدنا إلى أنّ الإنسان المؤمن لا يصح أنْ يضحي بشهوته الحقيقية، وهي إدراك الشهادة في سبيل الله أو النصر على العدو بسبب شهوات زائلة مثل المذكورة أعلاه.


والذين يدخلون على الناس ليُزينوا لهم غير منهج الله يأتون لهم بالمفتاح المناسب لشخصيتهم، فهذا تغريه امرأة، وهذا يغريه المال أو الذهب، وذاك يغلبه حب الأولاد، وهكذا لكل هوى مفتاح.


السؤال التاسع:
كيف وصف الله تعالى في هذه الآية المآب المطلق بالحسن؟


الجواب:
المآب المقصود هنا بالذات الجنة، وأمّا النار فهي المقصود بالغرض؛ لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب.


والجنة مراتب ارتقائية على قدر موقف الإنسان من منهج ربه، تقول رابعة العدوية:

كلهم يعبــدون من خوف نـــــار ** ويرون النجــاة حظـــاً جزيـــلا
إنني لست مثـــلهم ولهـــــــــذا ** لستُ أبــغي بمن أُحِبُّ بديـــــلا


والله سبحانه يقول: ﴿فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ﴾ [الكهف:110] ولم يقل: (جنة ربه) حتى لا تشغلنا النعمة (الجنة) عن المنعم وهو الله سبحانه .
والله أعلم .


بقلم: مثنى محمد هبيان

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

مقالات ذات صلة

مختارات من تفسير "من روائع البيان في سور القرآن" (الحلقة 3)
الخميس، 6 شعبان 1440 هـ - 11 أفريل 2019مختارات من تفسير "من روائع البيان في سور القرآن" (الحلقة 3)
اللمسات البيانية في البسملة [بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] {الفاتحة:1} السؤال الأول...
مختارات من تفسير "من روائع البيان في سور القرآن" (الحلقة 2)
الأربعاء، 5 شعبان 1440 هـ - 10 أفريل 2019مختارات من تفسير "من روائع البيان في سور القرآن" (الحلقة 2)
  البسملة ومقاصد سورة القاتحة وأسماؤها وفضلها  القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل...
مختارات من تفسير "من روائع البيان في سور القرآن" (الحلقة 1)
الاثنين، 3 شعبان 1440 هـ - 8 أفريل 2019مختارات من تفسير "من روائع البيان في سور القرآن" (الحلقة 1)
  الاستعاذة قال الله تعالى : [خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَا...