الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
الحمد الله الذي منّ علينا بنعمة النصر والفتح المبين في سوريا، ورحم الله الشهداء الأبرار، وأعاد المهجرين إلى بيوتهم آمنين.
لا شك أن مرحلة تأسيس الدولة من جديد لا تقل أهمية عن إسقاط النظام، فنحن أمام تأسيس دولة مدنية قوية عادلة بعد أن عاث النظام الأسد المجرم فيها الفساد والظلم منذ خمسين سنة في سوريا، ونحن كمسلمين نحلم بإقامة دولة عادلة تحكم بشرع الله، وتحقق العدل بين أبنائها ومواطنيها من غير المسلمين، وهي مسؤولية عامة تقع على أفراد هذه الأمة، فكان من الضروري توضيح المفاهيم التي تبنى عليها هذه الدولة.
فكان لابد من عرض بعض المفاهيم وبيان الحاجة لمعرفتها في هذا الوقت بالذات، فكان كتاب الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى "من فقه الدولة في الإسلام "، من أفضل ما وجدت لأنقل لكم منه توضيحا لهذه المفاهيم، فبدأ بمقدمة جميلة يقول فيها: هذا الكتاب في فقه الدولة في الإسلام وهو فقه قصر فيه المسلمون كثيرا في الأزمنة الأخيرة، ولم يعطوه حقه من البحث والاجتهاد، كما أعطوا مجالات الفقه الأخرى، التي توسعت وتضخمت وخصوصا فقه العبادات.
ولقد شكا الإمام ابن القيم في عصره (القرن الثامن الهجري) من جمود فقهاء زمنه، حتى إنهم اضطروا أمراء عصرهم إلى أن يستحدثوا (قوانين سياسة) بمعزل عن الشرع، وحمّل ابن القيم الفقهاء الجامدين تبعة انحراف الأمراء والحكام، وشرودهم عن منهج الشريعة السمحة، وربما يعتبر هذا أول تسلل للقوانين الوضعية لتحلّ محلّ أحكام الشريعة الإسلامية.
ومازال لهؤلاء الفقهاء الجامدين كما يصفهم القرضاوي -رحمه الله تعالى -يعيشون في القرن الخامس عشر الهجري، ولكنهم يفكرون بعقول أولئك العلماء.
ونسي هؤلاء أن الإمام الشافعي غير مذهبه في مدة وجيزة، فكان له مذهب جديد، ومذهب قديم.
وأن أصحاب أبي حنيفة خالفوه في أكثر من ثلث المذهب، لاختلاف عصرهم عن عصره، وقالوا: لو رأى صاحبنا ما رأينا، لقال بمثل ما قلنا أو أكثر، والإمام أحمد تروى عنه في المسألة الواحدة روايات قد تبلغ سبعا، أو أكثر وما ذلك إلا لاختلاف الأحوال والملابسات وتغير الظروف والأوضاع في غالب الأحيان.
مفهوم الدولة المدنية التي مرجعها الإسلام:
يصف القرضاوي- رحمه الله تعالى- شكل الدولة في عصرنا هي دولة مدنية تحكم بالإسلام، وتقوم على البيعة والشورى، يختار رجالها من كل قوي أمين، حفيظ عليم، فمن فقد شرط القوة والعلم، أو شرط الأمانة والحفظ، فلا يصلح أن يكون من أهلها، إلا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات.
وهي دولة عالمية ليست دولة عنصرية ولا إقليمية، فالخلافة الإسلامية المنشودة التي يفرض الإسلام على الأمة إقامتها، وتذليل العقبات التي تعترضها، فالخلافة ليست مجرد حكم إسلامي في إقليم، ولكنه حكم الأمة في الإسلام، فهي تقوم على مبادئ ثلاثة:
الأول: وحدة دار الإسلام، فهما تتعدد أوطانها وأقاليمها فهي دار واحدة لأمة واحدة.
الثاني: وحدة المرجعية التشريعية، المتمثلة في القرآن والسنة.
الثالث: وحدة القيادة المركزية، المتمثلة في الخليفة الذي يقود دولة المؤمنين بالإسلام.
وليس معنى ذلك أنها ترفض غير المؤمنين بعقيدتها على أرضها، كلا إنها ترحب بهم، وتقاتل دونهم، ما داموا يقبلون أحكام شريعتها المدنية عليهم، أما ما يتعلق بعقائدهم عباداتهم وأحوالهم الشخصية، فهم أحرار فيه، يجرونه وفق ما يأمرهم به دينهم.
وهي دولة شرعية دستورية لها دستور تحتكم إليه، ودستورها يتمثل في المبادئ والأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم، وبينتها السنة النبوية في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والعلاقات: شخصية ومدنية، وجنائية وإدارية ودستورية ودولية.
لقوله تعالى {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} المائدة 49-50
والحاكم في الإسلام وكيل عن الأمة، بل أجير عندها فلها عليه ولاية الموكل على الوكيل والمستأجر على الأجير.
دخل أبو مسلم الخولاني الفقيه التابعي الزاهد على الخليفة معاوية بن أبي سفيان فقال: السلام عليك أيها الأجير فقال له من حوله: قل: السلام عليك أيّها الأمير، فقال: السلام عليكم أيّها الأجير فأعادوا قولهم، وأعاد قوله.
فقال معاوية: مه!
دعوا أبا مسلم، فهو أعرف بما يقول.
ودولة الإسلام ليست كسروية ولا قيصرية، إنّها لا تقوم على الوراثة التي تحصر الحكم في أسرة واحدة، أو فرع من الأسرة، يتوارثه الأبناء عن الآباء والأحفاد عن الأجداد كما يتوارثون العقارات والأموال، كما إن العلم والحكمة والفضائل لا تورث بالضرورة، وقد قال الله تعالى {ومن ذريّتهما محسن وظالم لنفسه مبين} الصافات 13
وهي دولة لحماية الضعفاء: لا لحماية الأقوياء، فهي تفرض الزكاة وتأخذها من الأغنياء لتردّها على الفقراء، وقد استفاضت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الاهتمام بأمر الضعفاء والدفاع عنهم بأبلغ الأساليب التي لم يعهدها النّاس من قبل.
فهو يقول صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص، وقد بدا منه شيء من عدم الاكتراث ببعض ضعفاء القوم: "وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم" رواه بخاري.
وأن لا تستبيح الدولة الإسلامية العادلة في حربها دماء النساء والأطفال والشيوخ، ممن لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، بل لا يُقتل إلا من يُقاتل.
وفي إحدى المعارك رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة فأنكر قتل النساء والصبيان.
ولا تتوسع الدولة المسلمة في سفك الدماء في الحرب، بل تقتصد في أشد القصد، إلا ما اقتضته الضرورة.
ويشرح الدكتور القرضاوي رحمه الله فكرة الحاكمية التي تثار حولها الشبهات، وهي أن تكون الحاكمية التشريعية لله وحده فقط، وهي الحاكمية العليا، وهذه الحاكمية بهذا المعنى لا تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن به الله لهم.
إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله، وذلك مثل: التشريع الديني المحض، كالتشريع في أمر العبادات بإنشاء عبادات وشعائر من عند أنفسهم، أو بالزيادة فيما شرع لهم باتباع الهوى، أو بالنقص منه كماً أو كيفاً، وكذلك التشريع فيما يصادم النصوص الصريحة الصحيحة، كالقوانين التي تقر المنكرات أو تشيع الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولأنفسهم ذلك في دائرة ما لا نص فيه أصلا وهو كثير، وهو المسكوت عنه الذي جاء به الحديث:"وما سكت عنه عفو"
يستطيع المسلمون أن يشرعوا لأنفسهم بإذن من دينهم في مناطق واسعة من حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسة غير مقيدين إلا بمقاصد الشريعة الكلية، وقواعدها العامة، وكلها تراعي جلب المصالح ودرء المفاسد ورعاية حاجات الناس. و ذلك مثل قوانين المرور أو الملاحة والطيران أو العمل والعمال والصحة والزراعة.
ويشدد رحمه الله أنه لن يكون للحركة الإسلامية وللصحوة الإسلامية فقه سياسي راشد ناضج، إلا إذا تجاوزت هذه الظواهر السلبية، وينضج فيها هذا الفقه الجديد الذي نركز عليه: فقه السنن، وفقه المقاصد، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه الاختلاف.
كما قال: أنه من الخطأ البين، بل من الضلال البعيد، أن يظن أن الإسلام يقاوم كل جديد مستحدث، بإدخاله تحت اسم البدعة.
فالواقع أن البدعة ما كان في أمر الدين المحض، مثل العقائد والعبادات وما يلحق بها، أما ما كان من أمور الحياة المتغيرة من العادات والأعراف والأوضاع الإدارية والاجتماعية والثقافية والسياسة وليس هذا من البدعة في شيء، بل هذا يدخل فيما سماه العلماء " المصلحة المرسلة" كما بين الإمام الشاطبي في كتابه "الاعتصام "وعلى هذا فعل الصحابة أمورا لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، مثل كتابة المصحف وتدوين الداووين، وفرض الخراج واتخاذ دارللسجن.
وبينّ القرضاوي رحمه الله موضع الخطأ في الاستدلال المطلق بالسيرة على الأحكام وهو الخلط بين السنة والسيرة في الاحتجاج.
فالسنة مصدر للتشريع والتوجيه في الإسلام بجوار القرآن الكريم.
فالقرآن هو الأصل والأساس والسنة هي البيان والتفسير والتطبيق.
والسيرة ليست مرادفة للسنة، فمن السيرة ما لا يدخل في التشريع ولا صلة له به.
ولهذا لم يدخل الأصوليون السيرة في تعريف السنة، بل قالوا: السنة ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ولم يجعلوا منها السيرة.
أما المحدثون فهم الذين أضافوا إلى القول والفعل والتقرير الوصف الخلقي والسيرة؛ لأنهم يجمعون كل ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم مما له علاقة بالتشريع وما لا علاقة له به، فيروون من حياته ما قبل البعثة من المولد أو الرضاع والنشأة والشباب والزواج.
المهم أن بعض الفصائل الإسلامية تتخذ من السيرة دليلا مطلقا على الأحكام، وتعتبرها ملزمة لكل المسلمين.
وليس من الضروري كما ذكر الدكتور القرضاوي في كتابه أن نطلب النصرة من أصحاب السلطة والقوة كما طلبها الرسول الكريم من بعض القبائل، فاستجاب له الأوس والخزرج -إذ لم يعد ذلك أسلوبا مجديا في عصرنا.
وليس من الضروري أن نظل ثلاثة عشر عاما نغرس العقيدة، وندعو إليها، لأننا اليوم نعيش بين مسلمين يؤمنون بأن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فليسوا محتاجين إلى تلك المدة لنعلمهم العقيدة.
وإذا اهتممنا اليوم بالعدالة الاجتماعية، أو بالشورى والحرية، أو بالقدس والمسجد الأقصى، أو بالجهاد ضد أعداء الأمة، فليس ذلك مخالفة للهدي النبوي الذي لم يهتم بهذه الأمور إلا في المدينة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في مكة في مجتمع جاهلي مشرك بالله مكذب برسالة محمد، فكانت المعركة الأولى معه التوحيد والرسالة.
الإسلام لا يكون إلا سياسيّا: الإسلام له موقفا صريحا وحكما صريحا في كثير من الأمور التي تعتبر من صلب السياسة، فالإسلام ليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه ولا صلة له بتنظيم الحياة وتوجيه المجتمع والدولة، بل هو عقيدة وعبادة وشريعة متكاملة ومنهاج كامل للحياة، بما وضع من مبادئ وما أصل من قواعد وما سن من تشريعات وما بين من توجيهات تتصل بحياة الفرد، وشؤون الأسرة، وأوضاع المجتمع وأسس الدولة وعلاقات العالم.
كما وضع الدكتور -رحمه الله - مراتب لتغيير المنكر ومتى يجوز بالقوة وحتى لا أطيل ممكن مراجعة كتابه ففيه تفاصيل كثيرة، ولكن سأقوم بتعدادها فقط.
1-أن يكون محرما مجمعا عليه.
2-ظهور المنكر.
3-لتغيير المنكر بالقوة القدرة الفعلية على التغيير.
4-عدم خشية منكر أكبر.
كما أن تغيير المنكرات الجزئية ليس علاجا، وبوجه كلامه لمن ينشغلون بإصلاح حال المسلمين، وهي أن التخريب الذي أصاب مجتمعنا، خلال عصور التخلف وخلال عهود الاستعمار الغربي، وخلال عهود الطغيان والحكم العلماني؛ تخريب عميق ممتد، لا يكفي لإزالته تغيير منكرات جزئية، كحفلة غناء أو تبرج امرأة في الطريق...
إن الأمر أكبر من ذلك وأعظم، لا بد من تغيير أشمل وأوسع وأعمق.
تغيير يشمل الأفكار والمفاهيم، ويشمل القيم والموازين، ويشمل الأخلاق والأعمال، ويشمل الآداب والتقاليد، ويشمل الأنظمة والتشريعات.
وقبل ذلك لا بد أن يتغير الناس من داخلهم بالتوجيه الدائم، والتربية المستمرة، والأسوة الحسنة، فإذا غير الناس ما بأنفسهم كانوا أهلا لأن يغير الله ما بهم وفق السنة الثابتة {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} الرعد 11
ومع ضرورة الرفق في معالجة المنكر، ودعوة أهله إلى المعروف فقد أوصانا الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفق وبين لنا أن الله يحبه في الأمر كله، وأنه ما دخل في شي إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
هل تتفق الديمقراطية والإسلام؟
-من القواعد المقررة لدى العلماء السابقين أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فمن حكم على شيء يجهله فحكمه خاطئ، وإن صادف الصواب اعتباطا.
جوهر الديمقراطية يتفق مع الإسلام: جوهر الديمقراطية بعيدا عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه وأن يكون لهم حق محاسبته، وحق عزله وتغييره إذا انحرف، وألا يساق الناس رغم أنوفهم إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها، فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤه التشريد والتنكيل بل التعذيب والتقتيل.
وهذا جوهر الديمقراطية الحقيقية التي وجدت البشرية لها صيغا وأساليب عملية، مثل الانتخاب والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة وحرية الصحافة واستقلال القضاء.
والواقع كما يصفه الدكتور القرضاوي -رحمه الله تعالى – أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام، فهو ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه، ولا يرضون عنه، لحديث:"ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا" وذكر أولهم:" رجل أمّ قوما وهم له كارهون"
وإذا كان هذا في الصلاة فكيف في أمور الحياة والسياسة؟ وفي الحديث الصحيح: "خيار أئمتكم -أي حكامكم- الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم -أي تدعون لهم- ويصلون عليكم وشرار أئمتكم: الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم"
ويرى رحمه الله القرضاوي أن لا حجر على البشرية وعلى مفكريها وقادتها، أن تفكر في صيغ وأساليب أخرى، لعلها تهتدي إلى ما هو أوفى وأمثل، ولكن إلى أن يتيسر ذلك ويتحقق في واقع الناس، نرى لزاما علينا أن نقتبس من أساليب الديمقراطية، ما لابد منه لتحقيق العدل والشورى واحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه طغيان السلاطين العالين في الأرض.
ومن القواعد المقررة الشرعية: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن المقاصد الشرعية المطلوبة إذا تعينت لها وسيلة لتحقيقها، أخذت هذه الوسيلة حكم ذلك المقصد.
الانتخاب نوع من الشهادة:
إذا نظرنا إلى نظام الانتخاب أو التصويت، فهو في نظر الإسلام " شهادة" للمرشح بالصلاحية.
فيجب أن تتوفر في صاحب الصوت ما يتوفر في الشاهد من أن يكون عدلا مرضي السيرة لقوله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} الطلاق2، {ممن ترضون من الشهداء} البقرة 282، ويمكننا أن نخفف من شروط العدالة وأوصافها هنا بما يناسب المقام.
ومن شهد لغير صالح بأنه صالح، فقد ارتكب كبيرة شهادة زور، وقد قرنها القرآن بالشرك بالله {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} الحج 30
ومن شهد لمرشح بالصلاحية لمجرد أنه قريبه أو ابن بلده، أو لمنفعة شخصية يرتجيها منه، فقد خالف أمر الله تعالى {وأقيموا الشهادة لله} الطلاق 2
ومن تخلف عن أداء واجبه الانتخابي حتى رسب الكفء الأمين، وفاز بالأغلبية من لا يستحق، ممن لم يتوفر فيه وصف القوي الأمين فقد خالف أمر الله في أداء الشهادة، وقد دعي إليها، وكتم الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها، وقد قال الله تعالى {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} البقرة282، {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} البقرة 283
فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر، فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه: هو رفض الدكتاتورية المتسلطة، ورفض حكم المستبدين بأمر الشعوب من سلاطين الجور والجبروت.
وهو الذي سماه الحديث "الملك القاضّ" أو " ملك الجبريّة" أي ملك التجبر والطغيان.
كما أن الثوابت لا يتدخل التصويت فيها:
ثم أن هناك أمورا لا تدخل مجال التصويت، ولا يعرض لأخذ الأصوات عليها، لأنها من الثوابت لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته، ولم يعد مسلما.
فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع، وأساسيات الدين، وما علم منه بالضرورة، وإنما يكون التصويت في الأمور " الاجتهادية" التي تحمل أكثر من رأي، من باب المصالح المرسلة، كتحديد مدة رئيس الدولة وجواز تجديد انتخابه، أو إعلان حالة الطوارئ أو الحرب.
التعددية الحزبية في ظل الدولة الإسلامية:
تعدد الأحزاب قد يكون ضرورة في هذا العصر، لأنه يمثل صمام أمان من استبداد فرد أو فئة معينة بالحكم، وتسلطها على سائر الناس، كما دل على ذلك قراءة التاريخ واستقراء الواقع.
كما يشترط لتكتسب هذه الأحزاب شرعية وجودها أمران أساسيان:
1-أن تعترف بالإسلام -عقيدة وشريعة -ولا تعاديه أو تتنكر له، وإن كان لها اجتهاد خاص في فهمه.
2-ألا تعمل لحساب جهة معادية للإسلام ولأمته، أيا كان اسمها وموقعها.
فلا يجوز أن ينشأ حزب يدعو إلى الإلحاد أو الإباحية أو اللادينية، أو يستخف بمقدسات الإسلام.
إضاءات:
المشاركة في حكم غير إسلامي: الأصل عدم المشاركة، وألا يشارك المسلم في حكم يستطيع فيه أن ينفذ شرع الله فيما يوكل إليه من مهام الولاية أو الوزارة، وألا يخالف أمر الله تعالى ورسوله {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} النور 63
والخروج عن الأصل لاعتبارات شرعية:
1-تقليل الشر والظلم مطلوب بقدرالاستطاعة:{فاتقوا الله ما استطعتم} التغابن 16
وقال تعالى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} البقرة 286، وقد رأينا النجاشي ملك الحبشة أسلم في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومع هذا لم يستطع أن يقيم حكم الإسلام في مملكته، لأنه لو فعل ذلك خلعه قومه، ولم ينكر عليه الرسول الكريم.
2-ارتكاب أخف الضررين: لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة: "لولا قومك حديثو عهد بشرك لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم"
فترك ما يراه واجبا، خشية أن تثور فتنة من التغيير في بناء الكعبة، وهم لم ترسخ أقدامهم في الإسلام بعد.
3-النزول من المثل الأعلى إلى الواقع الأدنى: ومن هنا تقررت القاعدة المشهورة "الضرورات تبيح المحظورات" وقاعدة المشقة تجلب التيسير وقاعدة لا ضرر ولا ضرار وقاعدة رفع الحرج.
ومن قرأ القرآن واستقرأ السنة وجد ذلك واضحا كل الوضوح، فقد بين القرآن أن الله تعالى أحكم شرعه على اليسر لا على العسر، وعلى التخفيف لا على التغليظ. فقال تعالى {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} البقرة 185{ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} البقرة 178
وعن مشاركة المرأة في السياسة وضح القرضاوي رأيه:
بعد أن عرض آراء العلماء ما بين معارض ومؤيد، بين أن علماء الأمة قد اتفقوا على منع المرأة من الولاية الكبرى أو الإمامة العظمى.
أما ماعدا الإمامة والخلافة وما في معناهما من رئاسة الدولة -فهو مما اختلف فيه وهو يتسع للاجتهاد والنظر.
فيمكن أن تكون وزيرة، ويمكن أن تكون قاضية، ويمكن أن تكون محتسبة احتسابا عاما، وقد ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الشفاء بنت عبد الله العدوية على السوق تحتسب وتراقب، وهو ضرب من الولاية العامة.
وينبغي الأخذ بالتدرج في هذا، وفق ظروف المجتمع ودرجة نموه وتطوره، فتعطى المرأة ما يناسبها من الوزارات، وتقضي في مجال الأسرة أولا، ثم في الأمور المدنية.
والحاجة تقتضي من المسلمات الملتزمات أن يدخلن المعركة معركة الانتخاب في مواجهة المتحللات والعلمانيات اللائي يزعمن قيادة العمل النسائي، والحاجة الاجتماعية والسياسية قد تكون أهم وأكبر من الحاجة الفردية التي تجيز للمرأة الخروج إلى الحياة العامة.
وأختم هذا المقال أن بناء الدولة بدءا من أصغر تفصيل إلى أكبر مؤسسة فيها، هي مسؤوليتنا جميعا كمواطنين، والاهتمام بالسياسة يأتي من باب الحرص على إقامة دولة قوية، وقد نوه علماؤنا السابقون بقيمة السياسة وفضلها، حتى قال الإمام الغزالي:" إن الدنيا مزرعة الأخرة، ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توءمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع"
هذا المقال فيه أهم الأفكار التي وردت في كتاب" من فقه الدولة في الإسلام "للدكتور القرضاوي، رأيت هناك ضرورة لإعادة نشر أفكاره لما نحتاجه اليوم في إقامة دولتنا الجديدة في سورية الحرة والله أعلم.
بقلم: نجاح علي الولي
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين