نهيهم عن قراءة الفاتحة للميت:
وهلمّ فلنتحدث عن وجه آخر من الخير يمنع منه بعض الناس، وما هو بممنوع، بل هو مشروع بأدلته العامة، ألا وهو: قراءة الفاتحة في ختام المجلس مثلا، أو في ختام الدرس، أو في ختام الدعاء، أو قراءتها للميت.
وما يقال في الفاتحة للميت، يقال في قراءة الختمة أو بعض الختمة، ولكن الفاتحة أكثر قراءة لأنها أعظم سور القرآن فضلا وبركة.
وحسبُها شرفًا أن الحق سبحانه قد خصها بالذكر حين قال ممتنا بها على رسوله صلى الله عليه وسلم في سورة الحجر: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)}
وقد فُسِّرت السبع المثاني بالفاتحة [التي هي سبع آيات، تُثنّى وتُكرر في كل ركعة] في صحيح البخاري عَنْ الصحابي أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي. فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟ ثُمَّ قَالَ لِي: لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ. ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ.
وفي صحيح مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ، لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا، لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ؛ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلاَّ أُعْطِيتَهُ.
[قوله: سَمِعَ نَقِيضًا: أي صوتا كصوت الباب إذا فُتِح].
أقول: فاعجب لمسلم ينهى مسلما دِيانة عن قراءة سورة الفاتحة، بعد هذا الذي عرفتَ من فضلها، وما هو إلا غيض من فيض فضلها.
وأما قراءتها عن الميت:
أو قراءة غيرها من القرآن، أو قراءة الختمة الكاملة بهذه النية، فإن هذه القضية قد غلا فيها بعض العامة وأنصافِ المتعلمين، إثباتا ومنعا، وجذبا ودفعا، مع أنها عند العلماء الراسخين لا تعدو أن تكون مسألة فرعية متسعة للخلاف من غير نكير ولا تأثيم.
وأقوال أهل العلم في هذه المسألة تُعلمنا أول ما تُعلمنا، الإخلاصَ في طلب الحق، واطَّراحَ العصبية للرأي أو الشيخ أو المذهب، التي ليس وراءها طائل إلا إشباع الأهواء، واضطغان الأحقاد، والمكابرة بالباطل بعد ظهور الحق.
وإنك لترى الصورة المُثلى للخلاف الفقهي النزيه، عندما ترى عالما فقيها يخالف إمام مذهبه في هذه المسألة، مع غاية التوقير لإمامه، كما فعل الإمام النووي الذي خالف في هذه المسألة الإمام الشافعي إمام مذهبه. رحمهما الله.
أو ترى إمام مذهب متبوعا يرجع عن قوله في هذه المسألة إلى قول من خالفه فور ظهور وجه الحق، من غير غضاضة، كما فعل الإمام أحمد رحمه الله.
ويأتي ذلك في ثنايا هذا البحث إن شاء الله.
قولان للعلماء في قراءة القرآن عن الميت:
القول الأول: أن الميت لا ينتفع بقراءة الحي عنه. وعليه فهي غير مشروعة.
وحجتهم: آية وحديث.
أما الآية فقوله تعالى في سورة النجم: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}
قالوا: فقراءتك عن الميت ليست من سعيه، فكيف يصل ثوابها إليه؟
وأما الحديث: فرواه مسلم وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ؛ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ.
قالوا: وقراءة القرآن عن الميت ليست من هذه الثلاثة.
القول الثاني: أن الميت ينتفع بالقراءة عنه: فهي مشروعة غير ممنوعة.
وحجتهم: أحاديث صحيحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالدعاء والاستغفار للميت في صلاة الجنازة، وأذِن بالحج والصيام والصدقة عن الميت.. فقاسوا قراءة القرآن المسكوتَ عنها، على هذه العبادات المأذون أو المأمور بها.
ففي صحيح مسلم عَنْ بُرَيْدَةَ بنِ الحُصَيْبِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ عَلَى أُمِّي صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: صُومِي عَنْهَا. قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: حُجِّي عَنْهَا.
وفي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ تَصَدَّقْ عَنْهَا.
فقالوا: قد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج عن الميت فأذِن فيه، وعن الصيام عنه فأذِن، وعن الصدقة عنه، فأذِن. فنحن نقيس قراءة القرآن عن الميت، على تلك العبادات المأذون فيها. وهو قياس صحيح، اللهم إلا إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قراءة القرآن عن الميت. وهذا لم يروه أحد.
وما يدرينا، فلعله لو سئل عنها لأذِن فيها كما أذِن في العبادات المذكورة. فبأي حق نمنع منها؟ خصوصا وقد وردت عن بعض الصحابة، كما سنرى إن شاء الله تعالى.
ابن تيمية يقول بوصول ثواب القرآن إلى الميت:
وقد أحصيتُ أكثر من سبعة مواضع من كلامه في الجزء الرابع والعشرين من مجموع الفتاوى، سئل فيها عن وصول ثواب قراءة القرآن إلى الميت؟ فأجاب بالإيجاب.
ومن كلامه في هذه المسألة ما جاء في مجموع الفتاوى ج24 ص299: وسئل عن الختمة التي تُعمل على الميت، والمقرئين بالأجرة، هل قراءتهم تصل إلى الميت؟ وطعام الختمة يصل إلى الميت أم لا؟
فأجاب: استئجار الناس ليقرؤوا ويُهدوه إلى الميت ليس بمشروع ولا استحبه أحد من العلماء، فإن القرآن الذي يصل ما قُرئ لله، فإذا كان قد استُؤجر للقراءة لله، والمستأجِر لم يتصدق عن الميت، بل استأجر من يقرأ عبادة لله عز وجل، لم يصل إليه. لكن إذا تصدق عن الميت على من يقرأ القرآن أو غيرِهم، ينفعه ذلك باتفاق المسلمين، وكذلك من قرأ القرآن محتسبا وأهداه إلى الميت نفعه ذلك والله أعلم. اهـ
ومن ذلك ما جاء في ج24 ص324: وسئل عن قراءة أهل الميت تصل إليه؟ والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير إذا أهداه إلى الميت يصل إليه ثوابها أم لا؟
فأجاب: يصل إلى الميت قراءة أهله وتسبيحهم وتكبيرهم وسائر ذكرهم لله تعالى، إذا أهدوه إلى الميت وصل إليه، والله أعلم. اهـ
لكن بماذا أجاب ابن تيمية عن الآية والحديث اللذين احتج بهما المانعون؟
وبماذا نجيب على من يقول: إن الصحابة وهم خير القرون، لم يفعلوا ذلك؟
فأما السؤال عن الآية: فقد أجاب عنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى.
وملخص جوابه: أن الإنسان ليس له إلا ما سعى على سبيل العدل. وأما على سبيل الفضل فلم تمنعه الآية البتة.
وتوضيح ذلك: أن مال زيد مثلا لزيد، ومال عمرو لعمرو. ليس لأحدهما حق في مال الآخر. لكن إذا طابت نفس زيد لعمرو ببعض ماله فإنه ينتفع به مع أنه في الأصل ليس حقه.
وكذلك ثواب العمل الصالح، فإنه لصاحب العمل، لكن إذا أهداه إلى غيره، انتفع به المهدَى إليه على سبيل الإحسان والفضل، لا على سبيل الاستحقاق والعدل.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج24 ص366: [وأما احتجاج بعضهم بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فيقال له: قد ثبت بالسنة المتواترة وإجماع الأمة أنه يُصلَّى عليه ويدعى له ويستغفر له، وهذا من سعيِ غيره، وكذلك قد ثبت ما سَلَف من أنه ينتفع بالصدقة عنه والعِتق، وهو من سعيِ غيره.
ثم يقول ابن تيمية: وللناس في ذلك أجوبة متعددة، لكنَّ الجواب المحقق في ذلك: أن الله تعالى لم يقل: إن الانسان لا ينتفع إلا بسعيِ نفسه. وإنما قال: {لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فهو لا يملك الا سعيه، ولا يستحق غير ذلك، وأما سعيُ غيره فهو له، كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه ونفْعَ نفسه، فمال غيره ونفْعُ غيره هو كذلك للغير، لكن إذا تبرع له الغير بذلك جاز.
وهكذا هذا؛ إذا تبرع له الغير بسعيه نفعه الله بذلك كما ينفعه بدعائه له والصدقة عنه، وهو ينتفع بكل ما يصل إليه من كل مسلم، سواءٌ كان من أقاربه أو غيرهم، كما ينتفع بصلاة المصلين عليه ودعائهم له عند قبره.] اهـ
وأما السؤال عن الحديث: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثَة..) فقد أجاب عنه ابن تيمية أيضا.
وملخص جوابه: أن الحديث المذكور يتحدث عن انقطاع ثواب عمل الميت، إلا من الثلاثة المستثاة. وأما عمل غيره عنه فليس من موضوع الحديث أصلا.
قال في مجموع الفتاوى ج24 ص311: [أما الحديث فإنه قال: انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له. فذَكَر الولدَ ودعاءه له خاصين؛ لأن الولد من كسبه، كما قال: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} قالوا: إنه ولده. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه) فلما كان هو الساعيَ في وجود الولد كان عمله من كسبه، بخلاف الأخ والعم والأب ونحوهم، فإنه ينتفع أيضا بدعائهم بل بدعاء الأجانب، لكن ليس ذلك من عمله. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (انقطع عمله إلا من ثلاث) لم يقل: إنه لم ينتفع بعمل غيره. فإذا دعا له ولده كان هذا من عمله الذي لم ينقطع، وإذا دعا له غيره لم يكن من عمله، لكنه ينتفع به.] اهـ
وأما السؤال عن شبهة أن السلف لم يقرؤوا القرآن للميت: فقد أجاب عنه ابن القيم في كتاب (الروح) فقال:
[وبالجملة فأفضل ما يُهدَى إلى الميت العِتق والصدقة والاستغفار له والدعاء له والحج عنه. وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعا بغير أجرة، فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج.
فإن قيل: فهذا لم يكن معروفا في السلف.. ولا أرشدهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم..
فالجواب: أن مُورِد هذا السؤال إن كان معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار، قيل له: ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن، واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال؟ وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات؟ ..
وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويُهدي إلى الموتى، ولا كانوا يَعرفون ذلك البتة، ولا كانوا يَقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم، ولا كان أحدهم يُشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت، بل ولا ثوابَ هذه الصدقة والصوم.. فإن القوم كانوا أحرص شيء على كِتمان أعمال البر فلم يكونوا ليُشهدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم.
فإن قيل: فرسول الله أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج، دون القراءة؟
قيل: هو لم يبتدئهم بذلك، بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم؛ فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذِن له، وهذا سأله عن الصيام عنه فأذِن له، وهذا سأله عن الصدقة فأذِن له، ولم يمنعهم مما سوى ذلك. وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك، وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟] انتهى، من كتاب الروح لابن القيم.
كلام ابن قدامة في المغني، وفيه بيان إنصاف الإمام أحمد، ورجوعه عن قوله إلى قول مخالفه:
قَالَ ابن قدامة: وَلَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا دَخَلْتُمْ الْمَقَابِرَ اقْرَءُوا آيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنَّ فَضْلَهُ لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ بِدْعَةٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ هُشَيْمٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَلَّال: نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ رَجَعَ رُجُوعًا أَبَانَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَرَوَى جَمَاعَةٌ أَنَّ أَحْمَدَ نَهَى ضَرِيرًا أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقَالَ لَهُ: إنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ بِدْعَةٌ. فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ الْجَوْهَرِيُّ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي مُبَشِّرٍ الْحَلَبِيِّ؟ قَالَ: ثِقَةٌ. قَالَ: فَأَخْبَرَنِي مُبَشِّرٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَوْصَى إذَا دُفِنَ يُقْرَأُ عِنْدَهُ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا، وَقَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يُوصِي بِذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: فَارْجِعْ فَقُلْ لِلرَّجُلِ يَقْرَأُ. اهـ
الإمام النووي يخالف إمامه الشافعي، ويُخرج القضية من المختلف فيه إلى المتفق عليه:
قال رحمه الله في (الأذكار): واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن، فالمشهور من مذهب الشافعي وجماعة أنه لا يَصل، وذهب أحمدُ بن حنبلٍ وجماعةٌ من العلماء، وجماعةٌ من أصحاب الشافعي إلى أنه يَصل. والاختيار أن يقولَ القارئُ بعد فراغه: اللهمّ أوصلْ ثوابَ ما قرأته إلى فلان. واللّه أعلم. اهـ
يعني أن القضية تحولت بقوله: (اللهمّ أوصلْ ثوابَ ما قرأته إلى فلان) إلى دعاء.
ولئن اختلفوا في وصول ثواب القرآن للميت، فإنهم لم يختلفوا في وصول الدعاء.
هذا الدعاء الذي ذكره الإمام النووي، سبقه إليه الإمام أحمد، فيما نقله عنه ابن قدامة في المغني كما تقدم في قوله: [وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا دَخَلْتُمْ الْمَقَابِرَ اقْرَءُوا آيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، "ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنَّ فَضْلَهُ لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ".]
وقد عبروا عن هذا الدعاء بالإهداء. كما في قول ابن تيمية المتقدم: [وكذلك من قرأ القرآن محتسبا "وأهداه إلى الميت" نفعه ذلك والله أعلم.]
وفي قول ابن القيم المتقدم: [وأما قراءة القرآن "وإهداؤها له" تطوعا بغير أجرة، فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج.]
فالأمر في ذلك واسع بحمد الله، لا يتطلب تبديعا ولا إنكارا ولا اتهاما.
وأما نهيهم عن الدعاء الجماعي في ختام مجلس علم أو مجلس عام. فإنه نهي لا وجه له البتة، لأنه قد دل عليه دليل خاص، فضلا عن الأدلة العامة والأدلة الأعم.
فقد روى الترمذي - وحسنه - عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ: اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا.
هذا عن زاوية النظر العلمي الأولى، التي اقتضاها التأمل في آية الحج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)}
وسيأتي الحديث عن زاوية النظر الثانية في الجزء التالي إن شاءالله.
وللحديث إن شاء الله صلة.
والله أعلم.
وكتبه: إبراهيم يوسف المنصور.
في العشرين من شهر الله المحرم، لعام 1447 من الهجرة الشريفة.
الموافق: 15/7/2025
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين