النفس الإبليسيّة

النفس الإبليسيّة

التصنيف: فقه الدعوة
الجمعة، 19 ربيع الآخر 1447 هـ - 10 أكتوبر 2025
36

صنّف الله عزّ وجلّ النفوس في القرآن ثلاثة أنواع: نفس أمّارة بالسوء، ونفس لوّامة، ونفس مُطمئنّة، ومن العلماء من قسم النفس المُطمئنّة إلى مُطمئنّة ومُلهمة، ويجمع هذه النفوس الآية الكريمة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ}[فاطر:32]..
وبالتدبّر للآيات التي وردت في ذلك، وسياقاتها يمكن أن تكون هذه النفوس كلّها لا تخرج عن أصل الإيمان والتوحيد لله تعالى، وإن كانت النفس الأمّارة بالسوء على خطر عظيم، قد تقترب من الكفر قاب قوسين أو أدنى.
وهناك نفس في القُرآن مُتمحّضة للكفر والشرّ، تحدّث القُرآن عن نماذجها وأشخاصها في مناسبات مختلفة، وتجتمع فيها صفات إبليس بأسوأ صورها، وهي ما أسمّيها: النفس الإبليسيّة الفرعونيّة، وقد تصل إلى درجة تسبق إبليسَ نفسَه، ويتعلّم منها، كما كان على ذلك فرعون وأشباهه من البشر.. وفي كلّ زمن فرعون وفراعين..


وتقوم النفس الإبليسيّة على ثلاثة أركان:
الكبرُ، وينجم عنه دعوى الألوهيّة والربوبيّة، والتسلّطُ على الناس بأنواع الظلم والتعدّي على الحرمات، والركن الثالث: القتلُ واستحلالُ إراقة الدم، وهو أخبثُ درجات الظلم، وبين هذين الركنين عموم وخصوص ظاهر، ويجمع هذه الأركان التحذير الذي جاء في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}[الفرقان:68]..
وَالشيطان يستَجرّ الإنسَانَ ويستدرجه من وَصف إلى آخرَ.. ثمّ من النفس الأمَّارة بالسوءِ إلى النفس الإبليسيّة، وأعمالها الإجراميّة المُخزية، التي لا تقف عند حد.. فإذا وقع الإنسَانُ في وهادها، واستحكمت في حياته حلقاتها، فليس أمامه إلاّ سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى، إلاّ أن يتداركه الله جلّ وعلا برحمته.. وَمن هنا فقد حذّرَ العلمَاء من معاص، قالوا فيها: إنّها يخشى على صاحبها من سوء الخاتمة..
ومن ثمّ فقد تكرّر في القرآن في مناسبات عديدة النهي عن اتّباع خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[البقرة:208]، {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة:169]، وعدّ الله ذلك عبادة للشَّيْطَانِ، فقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس:60ــ61]، وتلكم هي النفس الإبليسيّة، التي انحازت إلى سبيل الشَّيْطَانِ وولايته..
وإنّ أدقّ تَصوير لحال الإنسَان وتقلّبَاته، التي قد تصل به إلى النفس الإبليسيّة مَا جاء في قولِ الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الأعراف:175ــ176]، وتأمّلوا قوله تعَالى: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا} أيْ أنَّه قد مرّت به حالة كان صَاحب نَفس لوّامة، أو نَفس مطمئنّة.. ثمّ انتكس والعياذُ بالله شيئاً بعدَ شيء، فَانسَلَخَ مِنْ آيات الله، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ..
والنماذج من هؤلاء أصبحت كثيرة في هذا الزمن، لا تخفى على ذي بَصيرة، وقد وصف النبيّ هؤلاء بقوله: (يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).. وَالبدايات كانت باتّباع خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، الذي لا يَزال يستدرج صاحبه حتّى يَنسلخ من آيات الله، فيكون مِنَ الغَاوِينَ..
فلا تقفوا عند ما نشأ عَلَيْهِ الإنسان في بدايته، وانظروا إلى ما آل إليه أمره، وكيف استدرج إلى الشرّ خطوة بعد خطوة.. واسألوا الله تعالى الثبات على الحقّ حتّى المَمات..
وفيصل ما بين النفس المُؤمنة والنفس الإبليسيّة، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان أنّ النفس المُؤمنة سريعة الأوبة والإنابة إلى الله تعالى إذا وقعت في الذنب والمَعصية، كما قال الله عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ}[الأعراف:201ــ202]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران:135].
وأمّا النفس الإبليسيّة فهي تدّعي أنّ كلّ ما تفعله فهو عين الحقّ والعدل، والحكمة والخير، والإصلاح والصواب، فهي عدوّة الحقّ بغير هوادة، تسعى بالإفساد ولا تتوقّف: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}[البقرة:11ــ12]، فأنّى لها أن تُراجع نفسها، وتتراجع عن غيّها.
ويقول الله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا...} [الأنعام:112]. إنّ ضريبة قرب العالم من الشياطين أن يفتتن بأعمالهم ومواقفهم، رغباً أو رهباً، وشيئاً بعد شيء، حتّى يصبح مبرّراً لأعمالهم، وداعياً مروّجاً لهم، ومطيّة ذلولاً لمَآربهم، ولا يكون العالم حُرّاً بما يقول، ولا حرّاً بما يعمل..
اللهم إنّا نسألك الثبات على الحقّ حتّى المَمات، ونعوذ بك من الضلال بعد الهدى، وأن نَضِلّ أو نُضَلّ، بفضلك ورحمتك يا ربّ العالمين..


بقلم: عبد المجيد البيانوني

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

مقالات ذات صلة

من مواعظ الإمام سفيان الثوري
الاثنين، 1 ربيع الأول 1431 هـ - 15 فيفري 2010من مواعظ الإمام سفيان الثوري
اختيار الشيح  صالح الشامي 1- أصلحْ سَرِيْرَتَك يصلح اللهُ علانيتَك، وأصلح فيما...
واقع الأمة وحتمية الدعوة إلى الله تعالى
الاثنين، 1 ربيع الأول 1431 هـ - 15 فيفري 2010واقع الأمة وحتمية الدعوة إلى الله تعالى
 بقلم: د/ عامر حسين أبو سلامةإن الناظر في واقع هذه الأُمة، يجدها منفصلةـ في كثير من ا...
الكلام الطيب طريق الدعاة إلى القلوب
الاثنين، 1 ربيع الأول 1431 هـ - 15 فيفري 2010الكلام الطيب طريق الدعاة إلى القلوب
الأستاذ : أبو معاذ جاهوش أفضل سبيل لتحقيق هدف المتكلم - متحدثاً كان ، أو محاضراً ، خط...