متاعٌ قليل.. ثم مأوى ثقيل

متاعٌ قليل.. ثم مأوى ثقيل

قال الله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)} [آل عمران].


نداء رباني رفيع... يحمل في طيّاته عزاءً للقلوب المؤمنة، وتقويمًا لبوصلة النظر حين تختلط المقاييس في عالمٍ يموج بالفتنة. إنه نداءٌ يرفع الستار عن حقيقةٍ تاهت فيها العقول: أن الحركة الكثيرة ليست برهانًا على الهداية، وأنَّ الثراء والنفوذ ليس علامة على رضوان الله تعالى.
هذه الآية لوحة تهزّ القلب: "إنها حقيقةٌ تطمئن القلوب المؤمنة، وتعيد للدنيا حجمها الحقيقي، فقليلٌ ذلك المتاع، قليلٌ مهما بدا طويلًا وعريضًا."

تأمّل كلمة: {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ}
إنها كلمةٌ حيّة، تُصوّر حركةً دؤوبة، تجارتهم، أرباحهم، أسفارهم، انتشارهم في الأرض، ضجيجهم الحضاري، صعودهم الظاهر، ولكنَّ القرآن يضع كل هذا الضجيج في كلمة واحدة: "تقلب"!
حركة بلا قرار، دوران بلا مقصد، جلبةٌ تخدع من لا يرى إلا السطح. إنها حركةٌ لا تمتدّ إلى ما بعد الموت… فلا قيمة لحركةٍ لا تتصل بالخلود.

{مَتَاعٌ قَلِيلٌ}… كلمة قصيرة لكن وقعها ثقيل، فكم من مَلِكٍ هدَّ جيوشًا، وبنى مدائن، وملأ الأرض صيتًا.. ثم ذهب كل شيءٍ في لحظة غروب، وبقي وحدَه أمام الحقيقة التي طالما غفل عنها. و"القليل" هنا ليس من حيث العدد فحسب، بل من حيث القيمة، فالمتاع الذي ينقطع ولا يتصل بالآخرة، هو قليلٌ وإن ملأ الدنيا ضجيجًا.

{ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ }: إنها كلمةٌ تُسقط كل مظاهر القوة السابقة دفعة واحدة. فساعةُ الفصل لا تُقيم وزنًا لثروةٍ أو منصبٍ أو تقلبٍ في البلاد. والعجيب أن الآية لا تذكر أعمالهم، بل تذكر مأواهم مباشرة، لأن مصير الكافر محتوم بعقيدته قبل عمله؛ ومن انقطع عن الله انقطع عنه الأمان في كل دار.

إن الآية ليست فقط تسليةً للمؤمنين من رؤية ازدهار الظالمين؛ بل هي تصحيحٌ لمعايير النظر، وتحذيرٌ من أن يحسد المؤمنُ من لا يملك إلا الدنيا. فمن لم يعرف الله، فكل ما عنده قليل، وإن بدا للناس كثيرًا. ومن عرف الله، فكل ما فاته من حطام الدنيا هين.

ومع ذلك… فالقلب البشري يفتن. فقد يرى المؤمن عمران الكافر ورغد حياته، فيخطر في نفسه شيء من الاضطراب. فجاء الخطاب القرآني يعالج هذا الاضطراب من جذره: لا تغترّ… لا تظن… لا تتوهّم… إنها حركة قصيرة، ثم سكونٌ طويل؛ متاع زائل، ثم مأوى عدل. فما دامَ المرء غافلًا فمهما تقلّب في الرخاء، فهو في الحقيقة عالق في الهباء.

هذه الآية ترسم خطًا فاصلًا بين العمران الذي ينبت من الإيمان، وبين الحركة التي تُغرّ وتخدع ثم تنقطع. إنها تعيد ترتيب القيم في النفس، وتُعيد للآخرة وزنها الهائل، وللدنيا حجمها الحقيقي. وتعيد للمؤمن يقينه، وتقول له: لا تلتفت حيث الضجيج.. فإن الحق لا يقاس باتساع الطرق، ولا بارتفاع الأبراج، ولا بامتلاء الأرصدة.. بل بما يسبقك إلى الله من أعمال تتقرب بها إلى مولاك.


بقلم: أحمد بلال البيانوني

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

مقالات ذات صلة

بيان مؤتمر العلماء الأول بدمشق - تاريخ 11-13 رجب 1357هـ
السبت، 29 ربيع الأول 1434 هـ - 9 فيفري 2013بيان مؤتمر العلماء الأول بدمشق - تاريخ 11-13 رجب 1357هـ
  الفكرة العامة الموجبة للمؤتمر        لما كان ...
ما أشبه الليلة بالبارحة - كلمة رابطة علماء سورية
الأربعاء، 12 شوال 1430 هـ - 30 سبتمبر 2009ما أشبه الليلة بالبارحة - كلمة رابطة علماء سورية
ما أشبه الليلة بالبارحة        كان بيان رابطة علماء بلاد ال...
تعريف بكتاب الجامعة الرمضانية للأستاذ عبد الله مسعود - صدور كتاب جديد عن رمضان
الأربعاء، 12 شوال 1430 هـ - 30 سبتمبر 2009تعريف بكتاب الجامعة الرمضانية للأستاذ عبد الله مسعود - صدور كتاب جديد عن رمضان
تعريف بكتاب الجامعة الرمضانية صدور كتاب جديد عن رمضان للأستاذ عبد الله مسعود. يقدم الأست...