مكانة الأقصى لدى المسلمين

مكانة الأقصى لدى المسلمين

التصنيف: فقه الدعوة
الجمعة، 6 رجب 1447 هـ - 26 ديسمبر 2025
12

منزلة الـمسجد الأقصى لدى المسلمين عظيمة لها أسس واعتبارات دينية، فهو أولى القبلتين، وثالث المساجد مكانةً، ومركز البركة في الشام كما قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1).


• القِبلة الأولى للمسلمين، والمسجد الثاني بناءً، والثالث أجرًا
لقد حثَّ رسول الله ﷺ على شدّ الرِّحال إلى الأقصى، والصلاة فيه، ومن ذلك قوله ﷺ: «لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجدِ الحرام ومسجدِ الرسول ﷺ ومسجدِ الأقصى». (البخاري: 1189). فالأجر فيه مضاعَف لا يسبقه في ذلك إلا الحرمان الشريفان. وهو ثاني مسجد في الأرض بناءً، فقد سأل الرسولَ ﷺ أبو ذرّ رضي الله عنه: أيُّ مسجدٍ وُضع في الأرض أولَّ؟ فقال ﷺ: «المسجدُ الحرام» قال: ثم أيّ؟ قال ﷺ: «المسجدُ الأقصى» قال: كم كان بينهما؟ قال ﷺ: «أربعون سنةً...». (البخاري: 3366).
وما زال مسجد القِبلتين في المدينة المنورة شاهدًا على صلاة المسلمين إلى بيت المقدس، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه «أن رسول الله ﷺ صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبُه أن تكون قِبلتُه قِبَلَ البيت [الكعبة]، وأنه صلَّى -أو صلَّاها- صلاةَ العصرِ وصلَّى معَه قومٌ، فخرَج رجلٌ ممن كان صلَّى معَه فمرَّ على أهل المسجدِ وهم راكِعون، قال: أشهَدُ بالله، لقد صلَّيتُ معَ النبيِّ ﷺ قِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت...». (البخاري: 4486).


• قلبُ الشام التي شَرُفَت بزيارات الرسول ﷺ قبل بعثـته، وأرض الإسراء والمعراج
الشام أرضٌ نزل بها الرسول ﷺ، ووطأتها قَدَماه الشريفتان ﷺ: في تجارته بمال خديجة رضي الله عنها حين بلغ سوق بُصرى بحوران، ومرّةً في غزوة تبوك، ثم كانت رحلة الإسراء إلى المسجد الأقصى حيث أمَّ الأنبياءَ في صلاة واحدة كما قال ﷺ: «وقد رأيتُني في جماعة من الأنبياء...فحانت الصلاةُ فأممتُهم». (مسلم: 172)، وفي هذا إعلان بأنه إمامُ الأنبياء، ووارثُ الدّيانات السماوية، وبه ﷺ كمال الرسالات وختامُها، كما في قوله ﷺ: «إِن مثَلي وَمَثَلَ الأنبياءِ مِن قَبْلي، كمثل رجُلٍ بَنى بيتًا فأحسنهُ وأجملهُ، إلّا مَوْضعَ لَبِنَةٍ من زاويةٍ، فجَعَلَ الناسُ يَطُوفون به، وَيَعجَبونَ له، ويقولون: هلَّا وُضِعَت هذه اللَّبِنَةُ؟» قَالَ ﷺ: «فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتم النَّبيّين». (البخاري: 3535).
والأقصى كما كان الأرضَ التي إليها إسراؤه ﷺ، فمنها كان معراجُه ﷺ إلى السماء، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «أتيتُ بالبُراق... فركبتُه حتى أتيتُ بيت المقدس، فربـطـته بالحلْقة التي يربِط فيها الأنبياءُ، ثم دخلتُ المسجدَ فصليتُ فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل... ثم عـُرِجَ بنا إلى السماء...». (مسلم: 162).


• أرض الأنبياء والهجرة والرِّباط المباركة
وصف الله تعالى الشام -وقلبُها بيتُ المقدس- بأنها مقدّسة مباركة في كتابه الكريم، فقال تعالى على لسان موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿يا قومِ ادخُلوا الأرضَ المقدَّسةَ التي كَتَبَ اللهُ لكم﴾ (المائدة: 21)، وقال تعالى: ﴿ولسليمانَ الرِّيحَ عاصفةً تجري بأمرِه إلى الأرضِ التي باركنا فيها﴾ (الأنبياء: 81). وعن النبي ﷺ قال: «لـمّا فرغ سليمانُ بن داود من بناء بيتِ المقدس، سأل اللهَ ثلاثًا: حكمًا يصادف حكمَه، ومُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وألّا يأتيَ هذا المسجدَ أحدٌ لا يريدُ إلا الصلاةَ فيه، إلا خرج من ذنوبه كيومَ ولدتهُ أمُّه»، فقال النبي ﷺ: «أمّا اثنتان فقد أعطيَهما، وأرجو أن يكونَ قد أعطيَ الثالثة». (أحمد: 6644).
وقد نجّى الله إبراهيمَ ولوطًا عليهما الصلاة والسلام إليها ﴿ونجّيناهُ ولوطًا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمَين﴾ (الأنبياء: 71)، وقد دعا الرسول ﷺ للشام ومدح الرِّباط فيها، فقال رسول الله ﷺ: «لا تزالُ طائفةٌ من أمتي على الدِّين ظاهرين، لعدوِّهم قاهرين، لا يضرُّهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواءَ حتى يأتيَهم أمرُ اللهِ وهم كذلك»، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال ﷺ: «ببيتِ المقدس، وأكنافِ بيتِ المقدس». (أحمد: 22320). وقال رسول الله ﷺ: «ألا وإن الإيمانَ حين تقعُ الفتنُ بالشام». (أحمد: 21733).
وفي آخر الزمان لا يدخل بيتَ المقدس الأعورُ الدجّال، فقد جاء في الحديث «...وإنّه سيَظهر على الأرض كلِّها إلا الحرمَ وبيتَ المقدس...». (الحاكم: 1230). وفي الشام مهبط عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام «...عند المنارةِ البيضاء شرقيَّ دمشق...». (مسلم: 2937) الذي سيقتل الدجالَ بباب لُدٍّ في فلسطين كما قال ﷺ: «يَقتل ابنُ مريمَ الدَّجالَ بباب لُدّ». (الترمذي: 2244).
والشام «...أرضُ المحشَر والمنشَر، وليأتينَّ على الناس زمانٌ ولقِيدُ سَوطٍ -أو قال ﷺ: قوسِ الرجل- حيث يرى منه بيتَ الـمَقدِس: خيرٌ له -أو أحبُّ إليه- من الدنيا جميعًا». (الحاكم: 8777)، وخِيرةُ البلاد. والأحاديث في هذا الباب عديدة، حتى لقد ألَّفَ سلطان العلماء العزُّ بن عبد السلام رسالةً سمّاها «ترغيبُ أهلِ الإسلام في سُكنى الشام».


• بيت المقدِس وقفٌ للأمّة الإسلامية
مدينة القُدس من الأوقاف العُمَرية في الشام على أمّة الإسلام، وأمانة بيد المسلمين، فقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه عُهدته لأهل إيلِياء (القدس) من النصارى بالأمان والحماية والسلام، وهَمَّ رضي الله عنه أن يقسّم الأراضي في الشام على الجنود الفاتحين، ثم أمسك عن ذلك بمشورة من عليٍّ ومعاذ رضي الله عنهما، يروي أبو عبيد: «قدم عمرُ الجابية، [غرب نَوَى في حوران] فأراد قسْم الأراضي بين المسلمين، فقال معاذ: واللهِ إِذن ليكوننَّ ما تكره، إِنَّك إن قسمتها صار الرَّيع العظيم في أيدي القوم، ثم يَبيدون، فيصير ذلك إِلى الرَّجل الواحد، أو المرأة، ثمَّ يأتي من بعدهم قومٌ يسدُّون من الإِسلام مَسَدًّا، وهم لا يجدون شيئًا، فانظر أمرًا يَسَعُ أوَّلَهم وآخرهم». (الأموال لأبي عبيد، ص: 74).


ختامًا.. إن بيت المقدس أمانة وقفية إسلامية، والذَّودُ عنه واجب وشرف تقلّده المسلمون، وينبغي بَذلُ الغالي والرخيص لأجله وأجل الرِّباط فيه، تحقيقًا لمراد الله من أمّة محمد ﷺ، وحفاظًا على ما تركه لنا من بعده الفاروق رضي الله عنه، ودرَجَ عليه الخلفاءُ بعده، وجاهدَ لأجل استعادته صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ولم يفرّط فيه أحدٌّ بأيِّ ثمن ٍكان، ومنهم السلطان عبد الحميد رحمه الله. وسيظل منارًا إسلاميًّا حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها.


صبحي ناشد
الثلاثاء 5 جُمادى الأولى 1447هـ/ 25 نوفمبر 2025م

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

مقالات ذات صلة

من مواعظ الإمام سفيان الثوري
الاثنين، 1 ربيع الأول 1431 هـ - 15 فيفري 2010من مواعظ الإمام سفيان الثوري
اختيار الشيح  صالح الشامي 1- أصلحْ سَرِيْرَتَك يصلح اللهُ علانيتَك، وأصلح فيما...
واقع الأمة وحتمية الدعوة إلى الله تعالى
الاثنين، 1 ربيع الأول 1431 هـ - 15 فيفري 2010واقع الأمة وحتمية الدعوة إلى الله تعالى
 بقلم: د/ عامر حسين أبو سلامةإن الناظر في واقع هذه الأُمة، يجدها منفصلةـ في كثير من ا...
الكلام الطيب طريق الدعاة إلى القلوب
الاثنين، 1 ربيع الأول 1431 هـ - 15 فيفري 2010الكلام الطيب طريق الدعاة إلى القلوب
الأستاذ : أبو معاذ جاهوش أفضل سبيل لتحقيق هدف المتكلم - متحدثاً كان ، أو محاضراً ، خط...