موقف المسلم من مصائب الأمّة (2)

موقف المسلم من مصائب الأمّة (2)

التصنيف: فقه الدعوة
الجمعة، 15 جمادى الآخرة 1447 هـ - 5 ديسمبر 2025
24

تحصين الدين من شظايا الفتن
على المسلم أن لا يَغفـُل، عند نزول البلاء وموج الفتن، عن الهدف الذي يجب أن يبقى ماثلاً بين عينيه، ألا وهو سلامة الدين وسعادة الآخرة.
وذلك لأنه قد يعرض للمسلم في ثنايا تلك الفتن وغمرة ذلك البلاء، صنوف من الرغبة والرهبة، والخوف والطمع، والأمن والفزع، والحب والحقد، والولاء لقوم والبراء من آخرين.
فلا يدَعَنّ شيئاً من ذلك يزحزحه عن غايته العظمى وهدفه الأسمى، ألا وهو سلامة الدين وسعادة الآخرة.

قد يجد المسلم نفسه وقت الفتنة أو البلاء في حال يستطيع فيه أن يجازف بمال غيره ليحمي ماله، أو أن يُشيط بدم غيره ليحفظ دمه.
قد يجد المسلم نفسه في غمرة الحروب والفتن، وهو يستطيع أن يُثري ويضاعف ثروته، على حساب قيم دينه ومصالح أمته، ودموع ودماء أبناء قومه وملته، كما هو معلوم في مصطلح (أثرياء الحرب).
قد يجد المسلم نفسه، في اختلاط الأمور واضطراب الأمن، وهو يستطيع أن يظلم من لم يكن يستطيع ظلمه من قبل، وأن ينال ممن لم يكن يستطيع النيل منه من قبل.
قد يجد نفسه - وبمقتضى الفتنة واستحقاقاتها - مدعواً إلى موالاة ظالم، أو إلى خذل من أمر الحق بمناصرته، أو إلى مناصرة جماعة أو عَصَبَة أو حزب على باطل، أو إلى تقديم من أخَّره الله، أو تزكية من جرحه الشرع، أو مدح من حقه الذم، أو نحو ذلك من الأمور المعكوسة والمنكوسة، وذلك بباعث حمية الجاهلية والعصبية القبلية أو القومية أو الإقليمية أو الفكرية أو المذهبية.
تلك الحمية والعصبية التي كثيراً ما تنبعث جَذَعة في الفتن.
أو بباعث هيبة من ذي سلطان، فيداهنه ويصانعه على حساب دينه، أو بباعث مطمع يراه متاحاً في الفتن كما لم يكن متاحاً من قبل، فيداعب ذلك المطمع خياله، وتشرئب إليه نفسه ويسيل له لعابه، وليس بينه وبين أن يشبع نهمه ويحقق حلمه إلا أن يتجاوز على شيء من الحق، ويتعدى على شيء من حدود الله.
والتأويلات والتعليلات جاهزة من تسويل النفس ووساوس الشيطان، فيبيع المسلم دينه بعرض من الدنيا.
ثم قد يبدو له بعد ذلك المطمع مطمع آخر أو مطامع، وكلها تتقاضى من دينه أضعاف ما يصيب فيها من الدنيا، فيرق دينه ويضعف لصالح دنيا ذات غرور لا تجدي عنه يوم الفزع الأكبر شيئاً.

فليتق المسلم ربه في كل ذلك، وليجعل همه وديدنه أبدًا سلامة دينه، فإنه لا يدري، فقد يكون هو نفسه من ضحايا تلك الفتنة، أو وقود هاتيك الحرب، ولن يغنيه بعد ذلك كل المطامع التي نالها، والأهواء التي اتبعها، بل يكون كل ذلك وبالاً عليه يوم لا يكون له من دار إلا الجنة أو النار.

وليكن لنا جميعًا عبرة بصاحب الشملة، الذي جازف بآخرته من أجل شملةٍ أخذها من غنائم خيبر قبل قسمتها، فلم يمهله الأجل للانتفاع بتلك الشملة التي اختلسها.
وجاء خبره في الصحيحين، واللفظ للبخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: افتتحنا خيبر، ولم نغنم ذهبًا أو فضة، إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط(1)  ، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى، ومعه عبدٌ له يقال له: مِدْعم. أهداه له أحد بني الضِبَاب، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه سهم عائر(2) ، حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئا له الشهادة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارًا). فجاء رجل، حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، بشِراك(3)  أو بشِراكين، فقال: هذا شيء كنت أصبته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شِراك - أو شِراكان - من نار)(4).

ومما وقع من هذا القبيل، في غزوة خيبر أيضاً، ما جاء في صحيح مسلم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر، أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد. فلان شهيد. حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلاّ، إني رأيته في النار في بُردة غلها، أو عباءة)(5).

فانظر كيف استغل كل من الرجلين اختلاط الأمور في المعركة، في حيازة تلك الشملة، أو تلك العباءة، سحتاً بغير حق، ثم لم يجدا من فسحة الأجل ما ينتفعان فيه بذلك المتاع التافه، الذي حرَما نفسيهما بسببه عظيم الأجر، وهو أجر الشهادة، واكتسبا عظيم الوزر، وهو الوعيد بالنار.

فما أحرانا أن نجعل الأولوية دائمًا- وفي النوازل والفتن على وجه الخصوص- أن نجعل الأولوية لسلامة الدين ونجاة الآخرة !
وأن لا نغفـُل ولا نذهَل عن ذلك تحت سلطان طمع ولا فزع، ولا حب ولا بغض، فإن هذه الأحوال كثيرًا ما تغزو الناس، فتزين لهم الجرأة على ما لا يحل، وتساومهم على دينهم. خصوصًا عند اضطراب الأمور وعربدة الفتن.
وكثيرون هم الذين يَضعُفون أمام تلك المساومات، وهؤلاء هم الضحايا الحقيقيون للفتن، الذين لا عزاء لهم على مصابهم، وذلك لأن المصيبة في غير الدين لها عزاء بالصبر واحتساب الأجر، أما المصيبة في الدين فلا عزاء لها .
وانظر إلى هذا المعنى في حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافرًا، يبيع دينه بِعَرَضٍ من الدنيا)(6).



هوامش:

(1) جمع (حائط)، وهو البستان.
(2) بوزن (فاعل)، وهو السهم الذي لا يُدرى مَن رمى به.
(3) الشراك، بكسر الشين، وتخفيف الراء: سَيْر النعل على ظهر القدم.
(4) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول.
(5) مسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول.
(6) مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال عند تظاهر الفتن.


بقلم: إبراهيم يوسف منصور

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

مقالات ذات صلة

من مواعظ الإمام سفيان الثوري
الاثنين، 1 ربيع الأول 1431 هـ - 15 فيفري 2010من مواعظ الإمام سفيان الثوري
اختيار الشيح  صالح الشامي 1- أصلحْ سَرِيْرَتَك يصلح اللهُ علانيتَك، وأصلح فيما...
واقع الأمة وحتمية الدعوة إلى الله تعالى
الاثنين، 1 ربيع الأول 1431 هـ - 15 فيفري 2010واقع الأمة وحتمية الدعوة إلى الله تعالى
 بقلم: د/ عامر حسين أبو سلامةإن الناظر في واقع هذه الأُمة، يجدها منفصلةـ في كثير من ا...
الكلام الطيب طريق الدعاة إلى القلوب
الاثنين، 1 ربيع الأول 1431 هـ - 15 فيفري 2010الكلام الطيب طريق الدعاة إلى القلوب
الأستاذ : أبو معاذ جاهوش أفضل سبيل لتحقيق هدف المتكلم - متحدثاً كان ، أو محاضراً ، خط...