الأستاذ الداعية المربي المجاهد محمد فاروق بطل.. صفحات من ذكرياته (13)

الأستاذ الداعية المربي المجاهد محمد فاروق بطل.. صفحات من ذكرياته (13)

التصنيف: علماء دعاة مربون
الاثنين، 8 جمادى الآخرة 1446 هـ - 9 ديسمبر 2024
116
محمد فاروق بطل...
محمد فاروق بطل...
الميلاد :1936 - 05 - 13- الوفاة :2024 - 07 - 24

1ـ تتمة الحديث عن الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي ـ رحمه الله تعالى ـ

9ـ قبل سنوات زرت دُبَي، وزرت الأخ الكريم د.عبد الرحمن الصابوني ـ عميد كلية الشريعة، وأستاذ مادة الأحوال الشخصية في كليتي الشريعة والحقوق سابقاً، وأستاذ في كلية الدراسات الإسلامية في دبي، وقد كان أقرب ما يكون إلى الأستاذ السباعي، رجوته أن يكتب مذكراته ومعلوماته عن السباعي وقلت له: إن هذا الواجب متعين في حقك، بحكم تلمذتك على السباعي، ومعايشتك إياه، وعملك معه، وسمعني ابنه، فلما كان اليوم التالي دعاني، وقال لي: أتعلم ما قال لي ولدي بعد سماعه طلبك مني؟ قال لي: أنت مجرم إن لم تدوِّن ذكرياتك عن السباعي ـ كما طلب إليك عمي الأستاذ البطل ـ لأن هذا حقنا وحق جيلنا أن نعرف تاريخ رجالها وقادتها، ورواد نهضتها، قلت له: أنا لا أوافق على وصف الإجرام. ولكنها الفريضة والواجب في حقك وحق أمثالك... ووعد الدكتور الصابوني أن يجيبني إلى طلبي، ولا زلت أنتظر ـ منذ خمس سنوات ـ وعساه قد فعل. ـأمد الله في عمره ـ.


10ـ أحرق قلبي الأستاذ نصوح السباعي شقيق الشيخ مصطفى، حينما زرته في جدة في منزل ولده، وطلبت إليه أن يعطيني ما بقي لديه من وثائق وأوراق وصور، تحكي بعض جوانب حياة أخيه، أو تعين على كتابة ترجمة حياته، فتنهَّد الشيخ نصوح، وقال: آه يا أستاذ فاروق! جاءتني باحثة من بريطانيا تريد أن تكتب رسالة دكتوراة عن الشيخ مصطفى، فأعطيتها كل ما لديَّ على أن تردَّها عليّ، فأخذت كل شيء، ولم تردَّ إليَّ شيئاً، بل لم أر وجهها حتى اللحظة، فعاتبته، وقلت له أستاذنا الكريم! سامحك الله، وغفر لك، هل هذا من حقك؟! قال: صدقت... إنه حق تلاميذه وجنوده، وحق الأجيال المسلمة أن تتعلم من سيرة هذا الرجل.


11ـ قبل عشر سنوات التقيت في جدة الشيخ الفاضل الأستاذ محمد نمر الخطيب(1) بقامته المهيبة، وجماله الأخاذ، وعِمَّته البيضاء، وجبته السوداء، وقد عرف عني، أو قيل له، إنني مهتم بكتابة سيرة السباعي، وترجمة حياته، فقال: كنا اثنين؛ إذا رآني أحدهم قال: هذا مصطفى السباعي، وإذا رأى أحدهم السباعي قال:هذا الشيخ محمد نمر خطيب، وفعلاً كأنَّ الرجلين نسخة طبق الأصل؛ طولاً ولوناً وجمالاً وعمة وجبة وأناقة، فكأنهما توأمان، ولذا كان يشتبه على الرائي إذا رأى أحدهما التمييز بينهما، إلا أن يدقق النظر؛ ثم قال لي الشيخ محمد نمر خطيب ـ أمد الله في عمره ـ: يا ولدي! أنا حجزت تذكرة للآخرة، وأُوشِك أن أرحل،وما أعرفه عن السباعي، لا يعرفه أحد غيري، فإذا أردتم شيئاً عن السباعي، فاسألوني قبل أن أودعكم إلى عالم آخر، وحاولتُ... ثم حاولتُ... ورجوتُ... ثم رجوت(2)... ولكني فشلت أن أحصل على شيء، وحسبنا الله ونعم الوكيل...وعسى أن يكون الرجل الوقور الشيخ محمد نمر الخطيب كتب شيئاً من مذكراته فنستفيد منها.


12ـ عام /1420هـ 1999م/ طلب إليَّ الأستاذ محمد مصطفى السباعي نجل الشيخ وأصغر أولاده، وأوفاهم لوالدهم، صاحب دار الوراق في الرياض.. طلب إليَّ أن أكتب كلمة عن والده، ليضمها إلى ما سبق من مقالات، كُتِبَتْ إثر وفاة الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ وقد ضمَّها عدد خاص من مجلة حضارة الإسلام، وأراد نجله الأستاذ محمد أن يعيد نشرها في كتاب... وقد صدر هذا الكتاب بعنوان:« مصطفى السباعي بأقلام محبيه وعارفيه»، وكانت طبعته الأولى عام /1421هـ ـ2000م/ صدر عن دار الوراق في الرياض، واشتمل الكتاب على كلمتي في الصفحات التالية:/253ـ266/، وكانت تحت عنوان:«رحماك رباه لشيخنا السباعي، كِفاء فضلك وكِفاء ما قدَّم» وبسبب ما ورد في هذه الطبعة من أخطاء مطبعية ـ خاصَّة في كلمتي ـ وهي أخطاء مخجِلة ومحرِجة، ولذلك أعيد نشر المقالة هنا، راجياً من الأخ الأستاذ محمد السباعي ـ حفظه الله ـ ملاحظة هذه الأخطاء في طبعة قادمة.


« رحمك الله أبا حسان! فقد كنتَ بالنسبة إليَّ الأستاذ والشيخ والمعلم والمربي والإمام والقدوة، بعد سيدنا رسول الله ^ فجزاك الله عني خيراً، أحببتك في الله مذ كنتُ صغيراً يافعاً، وأحببتك في الله حين كبرت، وأصبحتُ من تلاميذك وأعوانك وجندك... بكيتك ـ يشهد الله ـ حين اختارك الله إلى جواره، كما لم أبكِ أحداً من خلقه، ولا أبالغ إن قلت: بكيتك أكثر مما أبكي والديَّ ـ على فضلهما عليَّ ـ لأنني أعلم أن هذا مما تقر به عيونهما، وخاصة والدي ـ رحمه الله تعالى ـ الذي كان ينمِّي فيَّ حبي لك، ويشجعني أن أكون جندياً من جنودك.


لقد تتلمذتُ على شيوخ كرام كثيرين، وتربيَّتُ على أيدي علماء أفاضل، وصحبتُ بعد ذلك دعاة وقادة وعلماء وشيوخاً، ولكنني والله لم أجد في هذا العصر أحداً شبيهاً بك، إلا شيخك وأستاذك في الدعوة والجهاد الإمام الشهيد حسن البنا ـ رحمه الله تعالى ـ. ولذلك لم يستغرب أحد، ولم يعجب، أن تتطلع إليك عيون الدعاة وأنظار المخلصين؛ أن تتسلَّم قيادة كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث، لتكون المرشد العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين(3)، فقد كنت لها أهلاً، وبها جديراً، ولحكمة يعلمها الله،ولظروف خاصَّة بمصر، تمَّ اختيار الإمام حسن الهضيبي ـ رحمه الله تعالى ـ ونِعْم هذا الاختيار، وقد أكبرتَ أنت هذا الاختيار، وكنت أول المبايعين»(4).


«حقاً لم أجد لك شبيهاً في هذا العصر، في كل من لقيتُ وصحبتُ ـ على فضلهم وعلمهم وصدقهم ــ لم أر في هذا الزمن رجلاً يشبهك بحسن الاقتداء والتأسي الشاملين بسيدنا رسول الله ^؛ إخلاصاً لنصرة دينه،وحرصاً على إعزاز كتابه، وتحكيم شرعه، وجهاداً في إعلاء كلمته، ونصرة المستضعفين، وتحرير المظلومين، وإنصاف المضطهدين، وتطهير الأرض المقدسة فلسطين، بل تطهير كل أرض إسلامية، ترزح تحت نير الاستعمار، وتقع تحت عدوان المغتصبين.


ولم أر مثلك يا سيدي! حرصاً على مقارعة الأعداء والكبراء!.
ولم أر مثلك يا سيدي! تصميماً على إنصاف الفقراء، ونصرة الضعفاء!.
ولم أر مثلك يا سيدي! قوة في مواجهة الطغاة والمتكبرين!.
ولم أر مثلك يا سيدي! اعتزازاً بدينه وكرهاً لأعدائه!.
ولم أر مثلك يا سيدي! فهماً لدينه، وقدرة على إقناع خصمه!.
ولم أر مثلك يا سيدي! بلاغة إن قلت، و فصاحة إن خطبت، وبياناً إن كتبت!.
ولم أر مثلك يا سيدي! تواضعاً لتلاميذك وإخوانك!.
ولم أر مثلك يا سيدي! خطيباً بليغاً مفوهاً، لا يَملُّك سامع، ولا يضيق بك جالسّ!.
ولم أر مثلك يا سيدي! جميلا ً في جده ومرحه، في درسه ووعظه، في محاضرته وخطبته!


معذرة ـ سادتي القراء ـ فوالله ما أكتب هذا من فراغ، ولا أكتبه عن جموح عاطفة، ولا عن فيض حب، ولا أكتبه غلواً ولا مبالغة، فقد تعلَّمنا في الإسلام أن لا نغالي ولا نبالغ، وعلَّمنا رسول الله ^ أن نحب في الله، ونبغض في الله، وعلَّمنا أن نعتدل في الحب، لمواجهة احتمال أن تنقلب الأمور عكساً:« أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما».


وأنا وإن كنت لا أعتاب من حبي الكبير لشيخي السباعي،وعاطفتي الجياشة تجاهه، فكل ذلك، له ما يُبرَّر عندي؛ ديناً وشرعاً وعقلاً وواقعاً.
ويشهد الله أنني قلت ما قلت ـ والرجل أضحى في ذمة الله، ليس لي عنده مطمع ولا مطمح، وقد مضى على وفاته قرابة أربعين سنة فأنا لا زلت أعيش ذروة الحب في الله لهذا المعلم المربي، وهذا القائد الرباني، المجاهد العظيم مصطفى السباعي، ويعلم إخواني شغفي بالسباعي، واهتمامي بسيرته، والكتابة عنه، وجمع آثاره.


أقول: إنني أكتب هذا مخلصاً صادقاً، إقراراً بفضله عليَّ،ومعرفة به عن قرب، ومعايشة له في أكثر من ميدان.


معظم الذين كتبوا عن السباعي ـ رحمه الله تعالى ـ ذكروا له فضله في إنشاء كلية الشريعة وتأسيسها، ووضْع مناهجها والحفاظ عليها، والتضحية في سبيلها، والدفاع عنها في مواجهة الكيد والتآمر، ووضع العقبات والعراقيل في وجهها... ولكن هؤلاء الفضلاء فاتهم أن يتحدثوا عن الأثر الكبير، والنقلة الضخمة، والحدث الضخم، الذي أحدثه إنشاء كلية للشريعة تابعة لجامعة دمشق، لن أطيل الحديث عن هذه النتائج، لكنني أتحدث عن نتيجة واحدة؛ كنتُ واحداً ممن نعِموا بها، وتفضل الله بها عليه، هي أن طلاب المدارس الشرعيَّة في سورية ـ ومعظمهم فقراء ـ لم يكن لهم مستقبل، لا في نظر الناس،ولا في نظر الدولة... في نظر الناس لن يكونوا أكثر من مؤذنين، أو أئمة مساجد، أو مغسلي موتى، أو أصحاب كتاتيب، لا أقول هذا ازدراء بهؤلاء الكرام ـ حاشا لله ـ ولكن أقول: إن هؤلاء كانوا يعيشون دون خط الفقر، رواتبهم شحيحة، وظروفهم المعيشية سيئة، إلا أن يكونوا من مشايخ السلطان، أو علماء السوء، وأذكر أن والدي ـ رحمه الله تعالى ـ حين قرَّر أن يدخلني الثانوية الشرعيَّة في حلب، طمعاً في أن أكون عالماً، قامت عليه عائلتي ولم تقعد، قائلين: أليس حراماً عليك أن تضع هذا الولد الصغير في المدرسة الشرعيَّة الخسروية(5)؟!!، ألم تفكر في مستقبله؟! ألم تفكر أين يمكن أن يتوظف؟! ألم تفكر إلى أي جامعة يمكن أن ينتسب؟! أتريد أن تقتل شبابه ومستقبله و....و...؟! طبعاً كان هذا أثراً من آثار الغزو الفكري لعملية التعليم في سورية، وأثراً من آثار الحكم العلماني الذي لم يكن يعترف بالتعليم الشرعي،ولم يكن يعترف بشهاداته، وكانت هذه المدارس تابعة للأوقاف، وهي التي تنفق عليها،ومن ثم فلا يمكن لخريج الثانوية الشرعيَّة أن يجد وظيفة إلا ما ذكرت من وظائف تابعة للأوقاف، وبرواتب شحيحة، حتى يَضطرّوا أهل العلم الشرعي للنفاق أو المساومة على كرامتهم وعزتهم، والعيش البائس التعيس الذي يظهرهم وأولادهم في أسوأ حال، وأضيق عيش، وأدنى مستوى.


وهكذا تخرج المئات من طلاب الثانويات الشرعيَّة، وهم على هذا الحال ـ إلا ما رحم ربي ممن كانت له قدرة مالية للدراسة في الأزهر الشريف، أو كانت لهم وساطة يسرت لهم، أمر ابتعاث،وهو نادرـ...


حتى إذا هيأ الله السباعي ـ وقد كان يعرف معاناة هؤلاء الطلاب، والظروف القاسية التي يعيشونها، وقد كان واحداً منهم(6)، ووفقه مولاه بإنشاء كلية الشريعة في جامعة دمشق، وانتسب إليها خريجو الثانويات الشرعيَّة وغيرهم، فكانت خيراً عميماً عليهم، تابَعوا التحصيل العالي، وتخرجوا منها بدرجة (الليسانس)، وعُينوا مدرسين في وزارة التربية،ونالوا رواتب أمثالهم من حملة الليسانس، وأضحَوْا موظفين لدى الدولة، لهم حقوقهم، ولهم كرامتهم.
رحم الله السباعي، وأجزل مثوبته، كم من الشباب أنقذهم؟ وكم من الشباب القلق الحائر طمأنهم؟ وكم من الشباب الفقير الطموح أمَّلهم؟ فضلاً من الله ونعمة. وقد كنت ـ بحمد الله ـ واحداً من هؤلاء الشباب.
فأين ذاك الذي تخَّوفه أفراد أسرتي وعائلتي حين انتسبت إلى الثانوية الشرعية:[مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {فاطر:2}.؟!
ورحم الله السباعي كم اجتذب من الشباب المسلم الراغب من حملة الثانوية بفرعيها العلمي والأدبي، ليدرسوا الشريعة، ويتخصصوا فيها، ويتفوقوا في دراساتها، وكانوا بحمد الله كَسْباً للعلم الشرعي، وكسباً للدعوة الإسلامية.
وهكذا تعزَّزت الصحوة الإسلامية إلى جانب إخوانهم الآخرين من الدعاة والموجهين والمربين.
هذا في جانب فضل السباعي عليَّ، وعلى أمثالي ممن تشرفوا بالانتساب إلى كلية الشريعة.


يتبع في الحلقة الرابعة عشرة، ونكمل فيها الحديث عن الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي ـ رحمه الله تعالى ـ


(1) لا زال بحمد الله على قيد الحياة أمد الله في عمره أي حتى 28/4/2010.
(2) رجوت المقيمين معه في المدينة المنورة القريبين منه من إخوتنا السوريين.
(3) انظر كتاب الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية للدكتور: اسحق موسى الحسيني.
(4) ولا تنسى سورية كيف احتفى السباعي بالهضيبي لما زار سورية عام 1956 وكيف نظم استقباله الحاشد على مستوى سورية كلها.
(5) هكذا كان اسم الثانوية الشرعيَّة في حلب، نسبة إلى خسرو باشا، والمسجد الذي يعرف باسمه، باعتبار أن مكان الثانوية في رحاب هذا المسجد.
(6) شيخنا السباعي كان طالباً في الثانوية الشرعيَّة بحمص.

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين