مراتع طفولتي:
1 ـ بالتأكيدِ كان المرتع الأول لطفولتي في مدينة إدلب حيث وُلدت.
2 ـ ثم كان المرتع الثاني في قرية الرستن، الواقعة بين مدينتي حمص وحماة، والمطلة على نهر العاصي، حيث كان والدي موظفاً في ناحيتها، وأمضى فيها قرابة عشر سنوات.
ويغلب على ظني أنني غادرتها قبل دخولي المرحلة الابتدائية.
3 ـ ثم كانت العودة إلى مدينة إدلب فأقضي من سني طفولتي السنة الأولى من المرحلة الابتدائية، وقد عمل والدي في التجارة في إدلب، وافتتح دكاناً بسيطاً، وبالتالي كان دخله منه ضعيفاً وفقيراً.
4 ـ ثم استقرت إقامتنا، في مدينة حلب، عام 1947حيث عُيِّن والدي محاسباً في مديرية الأشغال العامة، ومن ثمَّ أمضيت في هذه المدينة بقية طفولتي وشبابي وكهولتي( )، بدءاً من السنة الثانية (المرحلة الابتدائية) ثم المتوسطة فالثانوية.
واستمرت إقامتي في مدينة حلب مع العائلة من عام /1947/ إلى عام /1980/ منها أربع سنوات في جامعة دمشق . ومنها كذلك أربع سنوات في سجون المخابرات في دمشق وحلب والحمد لله رب العالمين ، غادرت حلب مهاجِراً، اسأل الله سبحانه أن يكتب لي العودة إلى سورية الحبيبة، وأفراد أسرتي، وكل المهاجرين أعزة كراماً، وألوية النصر معقودة للإسلام، وما ذلك على الله بعزيز.
أبوة ودودة وأمومة حانية وطفولة قاسية
أكرمني الله بوالدين عطوفين حنونين، من آل البطل من أسرة واحدة، كما قدمت رحمهما الله تعالى ـ
أما الوالدة ـ رحمها الله ـ فقد حملت عبء هذه الأسرة التي أخذت تكبر سنة بعد سنة، وترتحل فترة بعد أخرى، لا يساعدها أحد إلا من يكبر من بناتها، تغسل على يديها إذ لم تكن هناك غسَّالة...، وتنتح الماء من الجب (البئر)أو من الحاصل( )، إذ لم يكن هناك تمديد للماء...، وكان عليها أن تعجن العجين لنحمله نحن على رؤوسنا إلى فرن أبي سامي في الصليبة ليخبزه، إذ لم يكن ثمة خبز جاهز، أو أنه كان مرتفع السعر لا تقوى عليه ميزانية والدي...، وكان عليها أن تكوي الثياب بمكواة بدائية تُحمَى على (الببور)، إذ لم يكن لدينا مكواة كهربائية. وكان عليها أن تنجِّد اللحف بعد غسلها...، وكان عليها أن تغسل صوف الفرش بين فترة وأخرى، ثم تعيد حشوها...، وكان عليها أن تشعل الفحم للمنقل (المدفأة) أيام الشتاء القارص لنتدفأ عليه ونتحلَّق حوله، حيث لم تكن لدينا مدفأة حطب، ولا مدفأة نفط، فضلاً عن مدفأة الكهرباء والشوفاج...، وكان عليها أن تعد الطعام على (البابور)، حيث لم يكن لدينا غاز، فضلاً عن الفرن الكهربائي...
وكانت ـ رحمها الله تعالى وجزاها عنا كل خير ـ تخيط لأفراد الأسرة معظم ثيابنا ـ بما فيها الطقم ـ كما كانت تخيط الألبسة النسائية بأجر لمِنَ يقصِدْنَها من النساء، وكانت كذلك تغزل الصوف ، وتحيك لنا منه الألبسة الشتوية، وتشتغل على الطارة (أناويشا) لصنع بعض الأغطية التي تزين الطاولات بأغطية فنية.
وكان عليها أن تُقدِم وجبات الإفطار، والله ما أذكر أنني غادرت البيت صباحاً إلا بعد تناول طعام الفطور مع إخوتي وأخواتي بإشراف الوالدين، والمنقل(موقد الحطب أو الفحم) قد أُشعِل منذ الصباح ...، وكان عليها أن تعزّل البيت، تنظف أرضه وجدرانه وأبوابه ومطبخه.... وكان لها ـ رحمها الله ـ هَوَس في النظافة...، وكان عليها أن تغسل بيديها حفوضات الرضع أو الأولاد الصغار كل صباح، إذ لم تكن لديها تلك الحفوضات الجاهزة، وكان عليها....!! وكان عليها....!! ليس لها من معين إلا الله، ومع ذلك فقد كانت دائماً بسَّامة الوجه، طلْقة المحيا، لا تبكي، لا تشكو، لا تتضجَّر، كلامها قليل، وفعلها كثير، وتضحياتها بالغة.
والله لا أذكر يوماً عاد فيه الوالد من وظيفته عند الساعة الثانية بعد الظهر إلا والولدة قد أعدتِ الطعام ونظَّفَتِ البيت، ورتَّبَتْه، ثم جهَّزت نفسها كأحسن ما يكون، استقبالاً لزوجها، تمتشط، تتزيَّن، تُغيِّر ثياب المطبخ والمهنة، وتُزيل ما علق بها من روائح الطعام وغيره، نتحلَّق وإخوتي حول سفرة الطعام على الأرض، وكل واحد منا يحرص أن يكون الأقرب مجلساً من والديه.
جوٌ هادئ، ماتع مؤنس، وأم مثالية بحق، أعطتنا مِن حبها ومودتها وعنايتها الشيء الكثير. عاشت قرابة ثمانين عاماً ـ رحمها الله تعالى ـ .
ـ أما والدي فقد كافح هو الآخر كفاح الأبطال، فقد اشتد بحثه عن عمل، أو مورد يعيل فيه هذه الأسرة الكبيرة، خاصَّة وأنه لا يتقن صنعة، ولا يحترف مهنة، ولا يحمل شهادة، لكن الرزاق هو الله، لم يقطعه من فضله أبداً، ونهض بأعباء هذه الأسرة على أتم وجه مع ما كان عليه من فقر وقلة ، وقد أخذ عمله المعيشي المناحي التالية:
موظف في مديرية الناحية بمدينة الرستن، كان راتبه خمس عشرة ليرة، أقام فيها على ما أذكر عشر سنوات ـ أنشأ فيها علاقات اجتماعية قوية مع مدير الناحية من آل هريسة من حمص، ومع معلمي الرستن، أذكر منهم الأستاذ عبد النافع الجندي(حمص) والأستاذ عز الدين العرواني (حماة) والد الأستاذ نعسان عرواني ـ حفظه الله تعالى ـ ، وكان بين الأسرتين علاقات حميمية، واستمرت ولا تزال، وتواصلت بين الأولاد بحمد الله، كذلك فإنه وبسبب روح والدي الاجتماعية الودودة، فقد أنشأ علاقات حميمة مع أهل الرستن، وخاصة مع والد العماد مصطفى طلاس، وأفراد أسرته. استمرت بعد انتقال الوالد من الرستن، في شخص العماد طلاس الذي كان رفيق أخي أمجد في المدرسة الابتدائية، وكان العماد طلاس ووالدته حفيّين بهذه العلاقة، فكان والدي كلما جاء حمص، يدعوه العماد إلى تناول طعام الغداء، بحضور والدته وزوجته بنت الجابري، حضر إحدى هذه الدعوات عمي الدكتور نزار، وكانت الجلسة شفافة ودودة ومتواضعة، وكان مِزاحاً هابطاً بين العماد أبي فراس وزوجته على مسمع الوالد والعم نزار ـ أعفُّ عن ذكره احتراماً للأموات ـ وهذا المزاح ليس غريباً على مَنْ عَرَف شخص أبي فراس ونفسيته وأخلاقه وتاريخه.
يتبع في الجزء الثالث، والذي سنبدأ الحديث فيه عن الطفولة القاسية التي عشتها..
(1) أما شيخوختي فأقضيها هنا في جدة مهاجراً في سبيل الله منذ قرابة إحدى وثلاثين سين ولا أدري إلى متى يقدِّر الله عليَّ البقاء مهاجراً اللهم العن الظالمين لعناً كبيراً وأنزل بهم عذابك الذي لا ترده عن القوم المجرمين.
(2) المستودع الذي يُجمع فيه الماء وقد كنا نأتي به محمولا بأيدينا أو على رؤوسنا من الحنفيات العامة المنتشرة في الأحياء أيام الاستعمار الفرنسي. وأنابيب الماء لم تدخل بعد البيوت في حلب إلا بعد الاستقلال عام 1947 وكان مجد الدين الجابري رئيساً لبلدية حلب.
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين