الأستاذ الداعية المربي المجاهد محمد فاروق بطل.. صفحات من ذكرياته (24)

الأستاذ الداعية المربي المجاهد محمد فاروق بطل.. صفحات من ذكرياته (24)

التصنيف: علماء دعاة مربون
الجمعة، 16 شعبان 1446 هـ - 14 فيفري 2025
170
محمد فاروق بطل...
محمد فاروق بطل...
الميلاد :1936 - 05 - 13- الوفاة :2024 - 07 - 24

في العمل والوظيفة وكد العيش
صدمات.... وصدمات:


كان العمل الرئيسي الذي شرفني الله به هو التدريس في مختلف مراحل التعليم متوسطة وثانوية وجامعية، لكنني تعرضت لصدمات متتابعة قبل وصولي إلى هذه الوظيفة أو تلك...
الصدمة الأولى: حادث السيارة.
عام /1956/كنت طالباً في كلية الشريعة ـ جامعة دمشق ـ وأجمع إلى جانب الدراسة العمل، ففي مكتب أسبوع الجزائر كنت أعمل مديراً أو سكرتيراً لقاء راتب أستعين به على نفقات دراستي الجامعية، ورسالة المكتب ومهمته: خدمة استقلال الجزائر إعلامياً وسياسياً ومالياً حيث كانت الجزائر مستعمرة فرنسية.
وخلال عملي في هذا المكتب جرى العدوان الثلاثي على مصر مِن قِبَل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل (العدوان الثلاثي) وقد تأثر الوضع السياسي في سورية، وأُعلِن الاستنفار، واتُخِذَتْ الاستعدادات العسكرية... فاستأذنت الأستاذ المبارك (الأمين العام لأسبوع الجزائر) في السفر إلى مدينة حلب، في إجازة قصيرة أُطَمْئِن فيها أهلي، وتردَّد الأستاذ المبارك في منحي الإذن، لكنه أمام رغبتي المُلِحَّة، سمح لي من أجل أن يقع القدر المقدور ـ والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ـ.
وسافرتُ راكباً الباص المسافر إلى حلب، وكان مزدحِماً جداً إلى درجة أن السائق بدى شبه مكتَّف، لجلوس اثنين ملاصِقَيْن له عن اليمين وعن الشمال. وسبب الازدحام هو مغادرة الناس مدينة دمشق إلى بلدانهم، خوفاً من تطوُّر الأحداث ووصول العدوان الثلاثي إلى دمشق...
قُبَيل مدينة حمص، وعند محطة البنزين، والسيارة مسرعة، يمر شخص عبر طريق السفر العام، متجهاً إلى المحطة، لشراء بنزين، أراد السائق تلافي الحادث، فانحرفت السيارة المسرعة جهة اليمين، ثم انحرف بها يساراً، ليعود إلى الجادة، فسقَطَت السيارة على جانبها، وكنت قد أخرجتُ يدي اليسرى، لتمسك بالشباك حين انحرف يميناً، فلما هوى يساراً، كانت يدي اليسرى ممدودة خارج شباك السيارة، فسُحِقت بثقل السيارة الزاحفة على جنب مسافة/15/م ـ كما قيل ـ.
حُمِلْتُ بعد الحادث إلى مستشفى حمص الكبير، وكانت عملية البتر، ومعالجة جروح في الرأس كانت خطيرة، وآثارها خطيرة ـ لولا لطف الله سبحانه ـ إذ لو كانت تلك الجروح عميقة لأدت إلى نزيف في الدماغ، أو كَسْرٍ في الجمجمة، أو ما شابه ذلك... رضيتُ بقضاء الله وقدره، وحمدتُ الله إذ أخذ مني جزءاً، لكنه حفظ لي الجزء الأهم وهو المخ، ووظائفه الهامة، ومِن ثَمَّ فقد كنتُ في معنويات مرتفعة جداً،وتمنيتُ في رسالة كتبتُها ـ وأنا على سرير المستشفى ـ للأخ الصديق أنور عبيد في إدلب، حامداً الله سبحانه فضله عليَّ، متمنياً أن يكون ما أصابني في حمص، في أرض المعركة، أرض المواجهة مع الاستعمار أو مع إسرائيل، وما كان الأخ أنور عبيد الذي أخذ الرسالة وأطلع الشيخ نافع الشافعية رئيس مركز الإخوان في إدلب، أو أحد أعضاء الإدارة، فثبت الرسالة في لوحة الإعلانات في المركز، كنموذج لتقبُّل أقدار الله، والرضى عنه سبحانه في كل حال.
وقد كنتُ تحدثت في مكان آخر من هذه الذكريات عن الرسالة الودودة التي أرسلها لي أستاذي الدكتور مصطفى السباعي ـ طيَّب الله ثراه ـ صحبة شقيق زوجته وسكرتير عميد كلية الشريعة الأستاذ محيي الدين الطباع.
وخلال مكثي في المستشفى اهتمَّتْ بي الممرضات كطالب جامعي شاب، وبذلْن عناية خاصَّة، وكانت حرارة الدعوة تجري في عروقي(1)، فأدرتُ معهن نقاشاً حول الإسلام وتحدثتُ عن خصائصه ومزاياه، أُرغِّبهنّ في اعتناق الإسلام، لأن كافة المستشفيات يومها كانت تُدار من قبل الراهبات والممرضات المسيحيات ـ استمراراً لعهد فرنسا ـ ولأنه لم يكن لدينا يومئذ معاهد تمريض، وما كان المسلمات لِيُقْبِلنَ على مثل هذا العمل.
وثمة حادثة طريفة لها مغزاها، أسمح لنفسي بروايتها للفائدة، وهي: أن الراهبة رئيسة الممرضات أستاذنت عليَّ ذات يوم ـ وكنتُ في غرفة منفردة ـ أن تغسل يديها... بالتأكيد أذِنتُها، وقدَّمت لها قطعة صابون معطر ـ قاصداً متقصداً ـ فتوقَّفَتْ واستغرَبَتَ ـ كما كنت أتوقع ـ قالت: أستاذ فاروق كيف سمحتَ لنفسك أن تُقدم لي صابوناً معطراً، وأنت تعلم أنني راهبة؟! ومن خلال حوارنا معك تبينَّا أنك مُلمٌّ بأحكام الرهبنة !! وبالتأكيد فإنك تعلم أن استعمال هذا النوع من الصابون محرَّم علينا كراهبات، فاعتذرتُ لها بأدب، واستثمرتُ الفرصة، فقلت: حقاً إنني لأعلم أنكم معشر النصارى تعتقدون أن آدم عليه السلام حين حرَّم الله عليه في الجنة الأكل من الشجرة، وأن إبليس أغراه بالأكل منها، وأن حواء هي التي استجابت لإبليس أولاً، وأقنعت آدم بالأكل منها، وبالتالي فالمرأة عندكم، وبسبب ذلك ملعونة قذرة، والله في كتابه الكريم لا يلقي باللوم على حواء فقط فيقول:﴿فأزلهما الشيطان عنها...﴾ محمِّلاً آدم وحواء معاً مسؤولية الخطأ، وبشكل متساو، ثم إنكم معشر النصارى تعتقدون أن آدم وحواء أُهبطا إلى الأرض عقوبة، والله جل شأنه يقول: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ البقرة: ٣٨.وتعتقدون أيضاً أن ذرية آدم يحملون وِزر الخطيئة، ولعنة الخطيئة، والله جل شأنه يقول: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ الإسراء: ١٥.وتعتقدون أيضاً أنه لا سبيل للخلاص من هذه الخطيئة أو هذه اللعنة إلا أن تفكوا أسر الروح من هذا الجسد الذي حلَّت فيه الخطيئة بكل ما فيه من غرائز وشهوات، وتعتقدون أن سبيل ذلك هو منع تناول الطيبات، وكبت الغرائز، وقهر الشهوات التي من شأنها أن تنعش الجسد، وأن تقهر الروح، ولذلك لجأتم إلى الرهبنة التي تمنع عليكم الزواج وآكل الطيبات، وتناول كل ما يثير الشهوة، وينعش الجسد... ومن هذا المنطلق أنتِ تعتذرين عن استمعال هذا الصابون المعطر، والقرآن يقول: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ الحديد: ٢٧.
ثم أردفتُ... وذكرتُ لها مثالاً أستغربه، ولا أكاد أصدقه، ولا أسمح لنفسي بروايته بسبب ذلك، لكنها فرصتي الثمينة، وأنا أمام راهبة ورئيسة ممرضات، لأتبيَّن ردة فعلها، فذكرت لها قصة من قصص الرهبان تحكي درجة عالية من الرهبنة، فقلت لها: إنني قرأتُ في أحد الكتب أن راهباً يفتخر بأن الماء لم يمسَّ جسمه منذ أربعين سنة!!! وللإخوة القراء أن يتخيَّلوا ماذا عساها أن تجيب؟ أنا مسلم متدين طالب في كلية الشريعة، أروي على مسمع راهبة مثل هذه الحكاية التي تشهد بقذارة راهب إلى درجة غير معقولة، وتحكي معاناة الإنسان مع الرهينة، والخرافة التي تحكمه، والجهل الذي يستبد به... قالت وبكل هدوء وبرودة أعصاب، ودون أن يحمر لها وجه، أو يبدو على محياها علامات استغراب أو استنكار!! قالت: صحيح أستاذ فاروق! كنتُ أتمنى أن أكون كذلك، لكن طبيعة عملي في المستشفى كممرضة ورئيسة ممرضات، وخشية العدوى و....و... لا أستطيع أن أصِل إلى هذه الدرجة!!!.
وأستميح القارئ العذر أن أسأله سؤالاً، يتبيَّن معه فظاعة ما أجابت به هذه الراهبة الممرضة، لو أن مسيحياً أخبرك أن مسلماً متديناً، صحيح البدن، وغير مريض، لم يستعمل الماء منذ أسبوع ـ وليس منذ أربعين سنة ـ كيف يكون جوابك؟! كيف يكون رد فعلك؟! كيف يكون حال أعصابك حين يُتَّهم المتدينون بالقذارة، ولمدة أسبوع فقط؟! وأنت تعلم أن الإسلام لم يُشدِّد في شيء من الأمر كما شدَّد في أمر الطهارة وقد قال صلى الله عليه وسلم : «الطهور شطر الإيمان» وأن المسلم يتوضأ على الأقل في اليوم خمس مرات غير الاغتسال المسنون أو المفروض....


أعود لأصل الموضوع... فأقول: أعقَبَت هذه الحادثة الصحية الكبرى، صدمات كثيرة....:
2ـ صدمة البحث عن وظيفة إدارية:
بعد تخرجي من جامعة دمشق، وحصولي على الإجازة من كلية الشريعة عام /1959/ والمعلوم أن هذه الإجازة مجالها الوحيد في سورية: هو تدريس مادة التربية الإسلامية في المدارس المتوسطة والثانوية، وقدَّرتُ في نفسي ـ وبسبب وضعي الصحي الجديد، ومظهري غير المكتمل ـ قدَّرتُ أنني لا أصلح للتدريس، وسأُرفَض في مسابقة المدرسين التي تجريها وزارة التربية السورية سنوياً، فقررت أن أبحث عن عمل إداري يُعفيني من هذه المسابقة، وكانت لي صِلة ودودة، مع الأستاذ عبد الرحمن الطباع، الأمين العام لوزارة الأوقاف يومها، حيث كان عضواً في مكتب الأمانة العامَّة لأسبوع الجزائر الذي كنت أديره، ورحَّب بيَ الرجل حين رجوته تأمين عمل إداري في وزارة الأوقاف، لكن أجهزة الأمن كانت لي بالمرصاد، وعَقَّدتِ الأمر، ورفَعَتْ بي التقارير، وكان وزير الأوقاف يومها رجل الأمن المعروف رئيس المكتب الثاني العقيد عبد الحميد السراج(2)، ومِن ثمَّ فقد خرج الأمر من يد الأستاذ الطباع، وكنت أغدو وأروح بين دمشق وحلب، أتوسَّط هذا، وأرجو هذا، وأتابع هذا وذاك، ولا جواب!! وكنت في هذه المرحلة في أسوأ حالة نفسية، وأقسى ظرف، كنتُ إذا رأيت الكنَّاس في الطريق أغبطه، وأقول في نفسي: هذا إنسان ناجح، إنه يجد العمل، إنه يجد الراتب والمورد، أما أنا فقد بلغت من العمر يومها /23/سنة، ولا أجد العمل، رغم ما أحمل من شهادة جامعية!! إلى متى أبقى عالة على والدي؟ متى سأبني حياتي، وأبدأ مسيرتي الأسرية؟ أسئلة قاسية ومؤلمة كانت تطرح نفسها عليَّ بقوة، ولا أجد لها جواباً، إلا الأمل بالله والتوكل عليه.
حقيقة... إنه لم يعصمني من هذه الحالة النفسية الصعبة إلا إيماني بالله ويقيني به، وتوكلي عليه، فالحمد لله أولاً وآخراً، فما أحوج الإنسان إلى الإيمان واليقين والتوكل؟
أوقفتُ مسعايَ لدى وزارة الأوقاف حين أبلغني الأستاذ سليمان النسر مدير أوقاف حلب أنه وجد لي وظيفة مؤقتة بحلب براتب قدره/150/ل.س، قلت له مستغرِباً: أحمل شهادة جامعية، وأُعطَى هذا الراتب!، ولوظيفة مؤقتة لا أعلم مدتها!! فأدرتُ ظهري لهذه الوظيفة التي فهمت أنها مجرد إحراج لي، أو جبر خاطر، إكراماً للأمين العام للوزارة الأستاذ عبد الرحمن الطباع ـ رحمه الله تعالى ـ !!.


3ـ صدمة البحث عن شهادة جامعية:
بعد إحساسي باليأس والفشل من الحصول على وظيفة إدارية في وزارة يرأسها رجل أمن هو عبد الحميد السراج في عهد الوحدة، يمَّمتُ وجهي إلى كلية التربية للحصول على شهادة دبلوم عامة في التربية التي تؤهِّل للتدريس، والتي تُسمَّى (أهلية التعليم الثانوي) أو( دار المعلين العليا)، وهذه الشهادة تُعطِي صاحبها أولوية في سلك التعليم، بمعنى أن حامل هذه الشهادة لا يحتاج إلى الدخول في مسابقة وزارة التربية السورية لانتقاء مدرسين. من هذا المنطلَق قلت في نفسي: لن أتقدم إلى مسابقة المدرسين لأن لجنة المسابقة سترفضني حتماً، بسبب وضعي الصحي، والأفضل أن أنتسب إلى كلية التربية للحصول على الدبلوم العامَّة التي تعفيني من الدخول للمسابقة والرفض المتوقَّع.
لكن لم يدرْ بخلدي أنني سأتعرض لصدمة قاسية جديدة، فما إن دخلت على وكيل الجامعة خالد بيك، سلمتُه أوراقي حتى ردَّها إليَّ، وبكلام قاس بعيد عن اللياقة والكياسة والحكمة، يصدر عن مسؤول رفيع في الجامعة ومثقف(3)!! والمفترض أنه مربٍ كبير، قال: لماذا تقدم لي هذه الأوراق؟! قلت: من أجل إعطائي موافقتكم على الإنتساب إلى كلية التربية، والحصول على الدبلوم العامَّة، قال: أنت تعلم أن هذه الشهادة تؤهِّل للتدريس. قلت: نعم. قال: إن وضعك الصحي لا يمكنك من التدريس! ثم رفض الموافقة! وردَّ لي الأوراق! وكانت صدمة كبيرة وقاسية، لكن الله جل شأنه هيَّأ مَن جبر كسر خاطري، وأخذ بيدي وأعانني، وقد فصَّلتْ ذلك في موضع آخر من هذه الذكريات حين تحدثتُ عن قصة انتسابي لكلية التربية.

يتبع في الحلقة الخامسة والعشرين، ونتحدث فيها عن صدمة التعيين..



(1) ولا تزال بحمد لله وفضله، فأنا الآن جاوزت السبعين من العمر بأربع سنتين حتى تاريخ إعداد هذه الحروف، الشهر السادس 2010، هذا في التاريخ الميلادي أما في التاريخ الهجري 7/1431، فقد جاوزت الخمس سنوات، والفضل لله تعالى فأنا لا زلت دعوياً وحركياً ونفسياً أشعر كأنني ابن ثلاثين، وبالتأكيد فالفضل لله ولهذه الدعوة المباركة، والجماعة الربانية.
(2) كان ذلك في عهد الوحدة بين سورية ومصر، وكان السراج وزير الداخلية والأوقاف، ثم أضحى نائباً لرئيس الجمهورية أي نائباً للرئيس عبد الناصر في الإقليم السوري.
(3) هو المسؤول الثاني في جامعة دمشق


تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين