4ـ صدمة التعيين:
حَصَلْتُ بحمد الله تعالى في عام /1960/ على شهادة الدبلوم العامَّة في التربية، وتقدمتُ بأوراقي إلى وزارة التربية لتعييني مدرساً لمادة التربية الإسلامية، باعتباري كذلك أحمل شهادة الإجازة في الشريعة، وصَدَرَت موافقة الوزارة على ذلك، لكنني حين أردتُ أن أُقدِّم أوراقي الثبوتية إلى مديرية التربية في حلب، كان عليَّ أن أقدم شهادة صحية من إدارة الصحة المدرسية التابعة لمديرية التربية في حلب، وفي غرفة الطبيب المكلَّف، قدمتُ له أوراقي، فرفض التوقيع على الشهادة الصحية! رجوتُه...! وألححتُ عليه في الرجاء...! وقلت له: حرام عليك... تقضي على أملي في الوظيفة، بعد دراسة ستة عشر عاماً!! وكانت صدمة قاسية وشديدة... أربع وعشرون سنة من العمر. لا أكاد أجد فرصة عمل تؤهلني لحياة كريمة!! لكن الله علم مني ذلك، فرحمني وجبر خاطري، وأبدل حزني فرحاً، وعسري يسراً، ويأسي أملاً، وقلقي طمأنينة، فلما ذهبتُ في اليوم الثاني لأستلم أوراقي من غرفة الطبيب، وإذا بالحاجب يسلِّمني إياها ـ وهو مستغرب!! ويقول مدهوشاً: ألست أنتَ الذي رفض الطبيب أن يوقع طلبك أمس؟ قلتُ: بلى، قال: إذن فَمَن وقَّعها؟ وقد غادرتُ العيادة أمس، وورقتك غير موقعة؟ قلت: الله أعلم. قال: عجيب!! وأردف: خذ الأوراق، واحمدِ الله، ولا تُطِلع عليها أحداً، فأخذت الأوراق منه، وحمدت الله سبحانه، فهو البَرُّ الرحيم الولي الكفيل، وهكذا دخلت سلك التعليم عام /1960ـ1961/ مدرساً لمادة التربية الإسلامية في ثانويتي المتنبي والخنساء في مدينة إدلب، وكنت ـ بحمد الله ـ من أنجح المدرسين، حتى إن مفتش المادة الأستاذ علاء الدين علايا ـ رحمه الله تعالى ـ، حين حضر درسي ودروس الزملاء الآخرين، كان معجَباً بأدائي وشخصيتي وضبطي، وأوصى في تقريره أن أتولَّى تدريس المرحلة الثانوية فقط، لأنني كنت أدرس في المرحلتين المتوسطة الإعدادية والثانوية.
5ـ صدمة مدير التربية:
كنت لِتوّي قد غادرت ثانوية المتنبي في إدلب ـ مشياً على الأقدام ـ عائداً إلى منزلي، وإذا بمدير التربية الدكتور جميل محفوظ يصادفني في الطريق ـ راكباً سيارته البيجو ـ فوقف وسلَّم عليَّ، ثم نظر إليَّ مستغرباً وسألني: أأنت تُدرِّس في هذه الثانوية؟ قلت: نعم. قال: عجيب!! كيف تُدرِّس وأنت على هذه الحال؟! لو كنتُ قد رأيتُك في مطلع العام الدراسي لما عينتُك!! قلت: الحمد لله إذ لم ترني، وغادرتُه، وأسِفْتُ أن يكون مثل هذا الرجل مديراً للتربية والتعليم، ويحمل شهادة الدكتوراه في علم النفس!!!.
6ـ صدمة المسجد:
كان لي درس أسبوعي تطوعي في جامع السبيل في مدينة حلب، كل يوم ثلاثاء، ما بين صلاتي المغرب والعشاء، وإذا ما أذَّن العشاء قدَّمني الإمام الراتب لأؤم المصلين، وذات يوم وأنا أهُمُّ بمغادرة المسجد، اعترضني أحد المصلين وقال: لا يجوز أن تكون إماماً... حرام عليك أن تقف إماماً، لأن وضعك الصحي لا يسمح!! قلت له: ما علاقة الإمامة بالوضع الصحي، طالما أنني مجاز في الشريعة وأحسِن التلاوة ؟ قال: مع ذلك لا يصح أن تكون إماماً!!.
ثم انصرف عني هذا الجاهل الدعيّ الذي لا يعرف سُلَّم الأولويات في اختيار الإمام، وتابعتُ دروسي بحمد الله تعالى، وقد كان يحضره إخوة خريجون وطلاب جامعيون.
* وبعد:
رغم هذه الصَدَمات والمعوِّقات فإن الله تعالى أحسن إليَّ بإكرامه وإنعامه وفضله...
أعمال ومهن في الطفولة:
سبق لي أن تحدثت عن المهن والحرف والوظائف التي مارستُها في المرحلتين المتوسطة والثانوية والآن أتحدث عن الوظائف التي قمت بها خلال فترة دراستي في جامعة دمشق، أجمع بين الدراسة والعمل، لأتمكن من متابعة الدراسة وتأمين نفقاتها، ثم أتحدث عن عملي في ميدان التدريس الثانوي ثم الجامعي:
أ ـ عمل ودراسة:
خلال فترة دراستي في كلية الشريعة، قمت بعملين، لقاء أجر أسبوعي أستعين به في دراستي.
1ـ عملي في مكتب الأمانة لأسبوع الجزائر، وقد تحدثت عنه في الصفحات السابقة.
2ـ عملي في مركز الإخوان المسلمين في دمشق لقاء مكافأة /100/ل.س شهرياً. كأني بالأستاذ الكريم عصام عطار أبي أيمن ـ حفظه الله تعالى ـ أراد أن يعوضني نفسياً بعد الحادث الأليم الذي تعرضت له قريباً من مدينة حمص عام /1956/ فما كدت أعود من حلب ـ بعد الحادث ـ حتى طلب إليَّ أن أتفرغ للعمل في مركز دمشق كمدير إداري تنفيذي، أنفذ القرارات والمهمات التي تصدرها إدارة دمشق، أو مكتب المراقب العام، أو المكتب التنفيذي للإخوان في البلاد العربية، وكل هذه المكاتب كانت مقارها في مركز الروضة الجديد ـ انتقالاً من مركز الشهداء ـ.
عملت في هذه المهمة حتى قيام الوحدة بين سورية ومصر عام /1958/، حيث اتفقت الأحزاب ـ وبينها الإخوان المسلمون ـ على حل نفسها، كشرط لقيام الوحدة.
وقد هيأ لي هذا العمل أن ألتقي كبار الشخصيات الإسلامية الذين يؤمِّون المركز، وكذا قادة الإخوان في البلاد العربية.
ب ـ مدرس مادة التربية الإسلامية:
درستُ هذه المادة في مدينتين:
1ـ مدرس في مدينة إدلب:
حيث درَّست في ثانويتي المتنبي للذكور، والخنساء للإناث، أمضيتُ قريباً من سنتين في هذه المدينة، ثم نُقِلت إلى حلب.
كنا في عهد الوحدة...وكانت مديرة ثانوية الخنساء السيدة هاجر صادق البعثية، والتي أضحت فيما بعد رئيسة الإتحاد النسائي في سورية، وقد فَرضَت على الطالبات المحجَّبات الخروج في العرض الاحتفالي في ذكرى الوحدة، فاعترضتُ عليها، واشتَّد بيننا الجدل، فاستعانت برئيس المخابرات في إدلب أو رئيس المباحث محمد الخطيب ـ على ما أذكر ـ استعانت به ليهددني، ويحقق معي، وكان مساعده، ـ يومئذ ـ الرقيب رفعت أسد الذي أضحى فيما بعد طاغية سورية، ومجرمها الأثيم، وقاتل أبنائها، ونائب رئيس الجهورية.... و...و...
2ـ مدرس في مدينة حلب:
درَّستُ في معظم ثانوياتها، وبخاصة للطالبات، حيث درست في دار المعلمات، وثانوية معاوية، وثانوية الفنون النسوية، وإعدادية عُلية بنت المهدي....و....و...
وبالنسبة للطلاب فقد درَّست في ثانوية المأمون وثانوية الكواكبي وثانوية التجارة وبعض الإعداديات، وكنتُ مكلفاً بتدريس /24/ ساعة أو يزيد أسبوعية، إلى جانب التدريس في المدارس الخاصَّة، وقد تصل الساعات إلى /36/ ساعة أسبوعية، لتحسين الدخل، ووفاء الدَيْن بسبب شراء البيت.
كانت علاقاتي طيبة وحميمة مع المدراء والزملاء والطلاب خلال عشرين سنة من التدريس، باستثناء مدير واحد هو محمد قجة مدير ثانوية المأمون في حلب أكبر الثانويات فيها، فقد كان يريد أن يثبت إخلاصه وولاءه للبعث وللدولة، فكان يكتب فيَّ التقارير المحرِّضة، ويرفعها للمخابرات، يتحدَّث فيها عن نشاطي وتأثيري على الطلاب وتأثّرهم بأفكاري، وقد استدعاني مدير فرع المخابرات في حلب المقدم يوسف كنعان للتحقيق والاستجواب، وللأمانة أقول: كان المقدم رئيس الفرع ودوداً معي، لطيفاً في التحقيق، بحكم أنه كان جاراً لي في السكن في الأنصاري في حي الزبدية، وكان معلماً ابتدائياً(1). قبل الثامن من آذار عام/1963/ وكان يستعير مني بعض كتب كلية الحقوق، فهو يعرفني تماماً، وكانت بيننا مودة... قال لي مرة: ماذا يريد منك محمد قجة؟، في كل يوم يرفع لي تقريراً عنك! أجبتُه: إني لأعجب لهذا السؤال! فأنتم أعرف بـ (محمد قجة) وما يريدْ!!! إنه يريد منصباً! إنه يريد إرضاءكم! إنه يريد أن يثبت إخلاصه لكم! إنه يريد أن يغطي على ماضيه! إنكم تعرفون أنه كان من الإخوان المسلمين، ثم ذهب إلى حزب التحرير، ثم ذهب إلى الشيوعية، وها هو اليوم في أحضان البعثيين، وسلَّمتموه إدارة أكبر ثانوية، ويستدعيني إلى مكتبه والمسدس أمامه، يريد أن يرهبني. وأجابني المقدم كنعان متحوقلاً ومعتذراً عن استدعائي، وأنه ليس بيده حيلة، وكان اعتقالي عام /1967/ نتيجة هذه التقارير.
وإني لأذكر أنه بعد الإفراج عني من هذا السجن لقيني زهير مشارقة في إحدى المدارس الخاصَّة المواجهة لثانوية المأمون، والتي لم أعد أذكر اسمها، وكان مشارقة مدرساً لمادة الفلسفة، قبل أن يصبح وزيراً للتربية، ثم نائباً لرئيس الجمهورية، وأميناً مساعداً للقيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، قال زهير معتذراً لي، ومهنئاً بالإفراج عني ـ: أنا أعرف لماذا اعتُقِلت؟ ومَن كان وراء اعتقالك؟ وسيأتي اليوم الذي يعرف فيه محمد قجة حجمه، وينال عقوبته.
3ـ مدرس في قريتي حريتان وعندان؟
وبسبب تلك التقارير أيضاً، نُقِلتُ ـ عقوبة ـ للتدريس في هاتين القريتين، وهما يبتعدان عن حلب قرابة /15ـ20/ كم يومها، وأظن أن البناء قد اتصل اليوم بين مدينة حلب وهاتين القريتين، والمسافة بينهما/5/ كم، وكان عليَّ أن أذهب كل صباح إلى إحدى هاتين المتوسطتين، ثم أعود عصراً إلى منزلي في حلب، أنتظر صباحاً باصاً أو مكرو باص عند الحديقة العامة في حلب لينقلني في الغدو والرواح بين حلب وقرية حريتان...
أما التنقل بين القريتين، فقد كان مشياً على الأقدام، وسط حقول الزرع، فقد يكون لي درس في هذه القرية الأولى، ودرس آخر في القرية الثانية، والفاصل بينهما ساعة.
وصحيح أن هذا التنقل كان مرهقاً ومتعباً، وخاصة مع المطر والثلج والبرد ووعورة الطريق، لكنها كانت فترة من أمتع الفترات في حياتي، لأنها كانت تتيح لي رياضة المشي والحركة، ومعايشة الطبيعة، وشم النسيم العليل، ومغازلة أيام الربيع، ومداعبة سنابل القمح الخضراء الطويلة.
4ـ العودة من المنفى والتدريس في مدينة حلب:
قضيت سنة مع هذه العقوبة، عدتُ بعدها إلى حلب، وكان طلب المسؤولين من المفتشين التربوي الذي هو عديلي زوج شقيقة زوجتي الأستاذ إبراهيم خطيب ـ رحمه الله تعالى ـ هو إبعادي عن التدريس في المرحلة الثانوية، وأن أُحوَّل إلى متوسطة في مكان ناء وبعيدة عن بيتي، وبعيدة عن بيتي، إمعاناً في عقوبتي، وإبعاداً لي عن التأثير في الطلاب، وقد كان الأستاذ الخطيب ــ رحمه الله تعالى ـ يعتذر لي ـ وألتمس له العذر ـ فقد كان موظفاً وحريصاُ على موقعه.
واستمر عملي في ميدان التدريس في مدينة حلب حتى عام /1973/ حيث اعتُقِلت، واستمر اعتقالي سنتين ونصف، عدت بعد الإفراج عني إلى التدريس، واستمرَّ الأمر حتى عام /1978/ حيث نُقِلت من مديرية التربية إلى مديرية التموين بحلب.
5ـ موظف في مديرية التموين في مدينة حلب:
تنفيذاً لخطة تبعيث التعليم التي اعتمدتها القيادة القطرية لحزب البعث العربي الإشتراكي، مقترنة بتبعيث الجيش(2) والإعلام والثقافة والقضاء وغيرها، فقد جرت مذبحة التعليم في سورية عام /1978/ وكنتُ واحداً من ضحايا هذه المذبحة التي كانت تهدف إلى إقصاء ذوي النشاط الإسلامي والتأثير عن ميدان التعليم. لأن الصحوة الإسلامية كانت آخذة بالاتساع، وما يُسمَّى كذباً وزوراً بفكر البعث وعقيدة البعث، لم يجد رواجاً ولا قناعة، ولذلك كان في تخطيط القيادة القطرية لهذا الحزب العلماني المشؤوم، إبعاد الناشطين الاسلاميين عن ميادين التأثير في مختلف الساحات، وخاصة ساحات التعليم والإعلام والثقافة، ولذلك أصدر وزير التربية قراراً بإبعاد /500/ معلم ومدرس من مختلف المراحل والاختصاصات عن ميدان التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي، سواء في ذلك مدرسو مادة التربية الإسلامية أو مدرسو الرياضيات، أو مدرسو الفيزياء والكيمياء، أو مدرسو اللغة العربية، نُقِل هؤلاء جميعاً إلى وظائف إدارية، ولمختلف الوزارات، وفي غير اختصاصاتهم.
وهكذا نُقِلتُ من ميدان تدريس مادة التربية الإسلامية إلى مديرية التموين، كانت رئيستي إحدى طالباتي، بيني وبينها فَرْق كبير في الراتب والترتيب الوظيفي، باعتباري قد وصلتُ ـ بحمد الله ـ يومئذ إلى قمة السلم الوظيفي... بينما هي في أول السلم الوظيفي!!، لم يكن لي من عمل مفتَرض إلا أن أسجل ما يدخل مدينة حلب من السكر والرز والصابون والتايد...و...و... ولكني في الحقيقة لم أقم بأي عمل، فكنت أغدو وأروح بين البيت ومقر العمل، لأمكث ساعة، وأُثبِّت دواماً، وكان لا يحاسبني أحد، ولا يسألني أحد، وكان مدير التموين يومها الأستاذ رياض الخليل ـ على ما أذكر ـ وكان يقدر ظرفي، ويدرك في داخله عمق المأساة، لأنه بعد ذلك صار وزيراً، ثم اعتُقِل بتهمة الفساد... وحمدت الله سبحانه إذ ألهم أعدائي الأغبياء أن يفرِّغوني، ـ وبراتبي الكبير السابق ـ لمزيد من النشاط الإسلامي والدعوي والتنظيمي، إذ كنتُ يومها رئيساً لإدارة مركز حلب، رئيساً لمجلس الشورى، ورئيساً للجنة التربية في الجماعة.
ونُقِل معي إلى هذه الدائرة الإخوة الأساتذة: مفتش مادة التربية الإسلامية الأستاذ علاء الدين علايا، و الأستاذ حسن عبد الحميد، و الأستاذ محمد الشيخ ويس، وابن أخيه الأستاذ عبد الله الشيخ ويس.
ومن الإخوة الذين نُقلوا من الجامعة الأخ الجار الحبيب الأخ الشهيد الدكتور محمد الحسن أستاذ الفيزياء النووية نُقِل إلى وظيفة صغيرة في مديرة الزراعة والمياه.
أمضيتُ في هذه الوظيفة قرابة سنة /1978ـ1979/، ثم صدر قرار بعودتي وإخواني للتعليم بعد أن اشتد الاحتجاج، وقامت المظاهرات، واضطربت البلاد وتوسط السادة العلماء.
لكنني لم ألتحق بعملي بسبب اعتقالي عام /1979/ والحمد لله ـ الذي لا يحمد على مكروه سواه ـ.
ونسيت في حديثي عن هذه المرحلة، وفي حقل التعليم، أن أتحدث عن ساعة مؤلمة مشهودة... حين دخل عليَّ في الصف ( الفصل الدراسي) وبشكل مفاجئ، وعلى مرأى من الطلاب، دخل ـ وبدون استئذان ـ المقدم بدر جمعة رئيس فرع المخابرات في حلب، وهو يحمل مسدسه، وبشكله المرعب، يتهدَّد ويتوعد، يسبُّ ويشتم بأقذع الألفاظ، والمناسبة أن الطلاب في ثانوية التجارة وغيرها من الثانويات حاولوا الإضراب والاحتجاج اقتحام مسجد خالد بن الوليد رضي الله عنه في ذكرى عيد المولد ـ على ما أذكر ـ .
وللتاريخ أقول كان هذا الطاغية الأثيم من أقرب المقربين إلى اللواء أمين حافظ وزير الداخلية يومها، ورئيس الجمهورية بعد ذلك، وفي صراع أجنحة البعث، وبعد حركة التمرد التي قادها الضابط الدرزي سليم حاطوم أُلقي القبض عليه، وعلى مساعده بدر جمعة، وأُعدِما رمياً بالرصاص بصفتهما عسكريين، وسبحان المنتقم الجبار!! فلشد ما ارتكب هذان المجرمان البعثيان من مظالم وحشية، فالمقدم بدر جمعة هو الذي أمسك بمسدسه ليضرب بقاعدته رأس الشيخ عدنان سرميني ـ عافاه الله ـ والشيخ فاضل خير الله ـ حفظه الله تعالى ـ حتى سال الدم غزيراً من رأسيهما، وذنبهما أن مجموعة من المتدينين تلتقي على ذكر الله في بيت أحدهما وصباح كل جمعة ـ أكرمهما الله وأحسن إليهما ـ.
يهود مدلَّلون:
ولطالما الشيء بالشيء يذكر، حين كنت مدرساً في مدينة حلب لمادة التربية الإسلامية كنت أستغرب أن يكون موعد امتحان مادة التربية الإسلامية في الثانوية العامَّة أو المتوسطة دائماً هو يوم السبت، واستغربتُ كثيراً، وقلتُ في نفسي: متى أضحت مادة التربية الإسلامية هامة في عهد البعث إلى هذا الحد؟! حتى يكون موعدها يوم السبت الذي يسبقه يوما الخميس والجمعة، بحيث يستفيد الطلاب من زمانهما في التحضير لمادة ثقيلة أو صعبة، كما هي العادة في العهود السابقة قبل قيام حكم البعث، وسألت؟ فتبَّين لي أن وفداً من زعماء الجالية اليهودية، قابلوا وزير التربية السوري، وأبلغوه أن أبناءهم سيقدمون أوراقهم بيضاء في أي مادة امتحان: رياضيات فيزياء كيمياء تشريح إن حُدِّد موعد امتحانها يوم السبت، لأن العمل محرم عندهم يوم السبت، وأجابتهم وزارة التربية السورية إلى طلبهم في عهد حافظ أسد، فتقرر أن يكون يوم السبت موعداً لامتحان مادة التربية الإسلامية إكراماً لليهود... وليس إكراماً للمسلمين، أو إكراماً للطلاب، ولا عجب في ذلك!! فقد أصدر د. مصطفى حداد وزير التربية السوري في عهد حافظ أسد قراراً برفع مواد التربية الموسوية اليهودية التوارتية إلى تسع ساعات، علماً أن الطلاب اليهود في مدارسهم يبدؤون دوامهم الصباحي بأداء الصَّلاة، وسماع الموعظة في الكنيس، ويختمون دوامهم المسائي في الكنيس بالصلاة وسماع الموعظة، كما حدثني بذلك مدير(3) مدرسة السموأل اليهودية الواقعة في شارع اسكندرون بحلب، وهذا الوزير نفسه مع حزبه وأركان الحكم الطائفي في سوريا، كانوا يضيقون بساعتين لمادة التربية الإسلامية، فيريدون أن تكون ساعة فقط! وكانوا يضيقون ذرعاًَ بمنهاجها كذلك، فكانوا يريدون أن يعودوا بهذا المنهاج إلى أيام فرنسا، ليكون مادة وعظية روحية، وكانوا كذلك يضيقون ذرعاً بكلية الشريعة والمعاهد الشرعيَّة فحاولوا أكثر من مرة إغلاقها، ولكن غضبة الشعب المسلم أوقفتهم عند حدودهم(4).
يتبع في الحلقة السادسة والعشرين، ونتحدث فيها عن التعليم الجامعي..
(1) بعد قيام ثورة 8آذار عام 1963م جيَّش البعثيون كافة المعلمين الذين سبقت لهم أن أدوا خدمة العلم، ومنحوهم رتباً عسكرية، وسلموهم مسؤوليات في الجيش، بعد أن تم عزل كثير من الضباط الكبار، وذلك تبعاً لسياسة تبعيث الجيش.
(2) قال أحدهم: إن سياستنا في تبعيث التعليم لا تقل أهمية عن تبعيث الجيش تعليقاً على مذبحة التعليم.
(3) كان مدير المدرسة المنتدب من قبل مديرية التربية في حلب هو الأستاذ عبد المجيد مارتيني، وجاءني يومها بنص القرار ورقمه وتاريخه، وكنت أحتفظ به في مكتبتي بحلب، ولا أدري ماذا جرى له بعد هجرتي ومصادرة مكتبتي؟!
(4) كانت محاولة الإغلاق هذه أحد أسباب اندلاع الثورة الإسلامية في سوريا عام /1979/.
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين