الجهود العلمية لأبي الوليد الباجي في حلب

الجهود العلمية لأبي الوليد الباجي في حلب

التصنيف: علماء فقهاء
الاثنين، 8 ذو القعدة 1446 هـ - 5 ماي 2025
262
أبو الوليد الباجي...
أبو الوليد الباجي...
الميلاد :- الوفاة :

بقلم: زهير محمود حموي (1)


من هو أبو الوليد الباجي:
أبو الوليد الباجي (403 – 474 هـ)، هو سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي المالكي، أحـد علماء الأندلس وحفاظها(2).
قال عنه ابن ماكولا: «أما الباجي، ذو الوزارتين، ففقيه متكلم أديب شاعر، سمع بالعراق، ودرس الكلام وصنف... وكان جليلاً، رفيع القدر والخطر»(3). وقال عنه القاضي عياض: «أقام بالحجاز، ورحل الى بغداد، يدرس الفقه، ويسمع الحديث عن أئمتها، ودخل الشام فسمع بها، وسمع بمصر، ودخل الموصل، فأقام بها عاماً، وحاز علمًا كثيرًا». قال الجياني: وحاز الرئاسة بالأندلس، فأُخذ عنه بها علم كثير، وسمع منه جماعة، وتفقه عليه خلق»(4). «وكان بينه وبين أبي محمد ابن حزم، المعروف بالظاهري، مجالس ومناظرات وفصول»(5).

مذهب أهل حلب:
قال الشيخ كامل الغزي: «المسلمون السنيون، هذه الفرقة أعظم فرقة إسلامية وجدت في حلب قديماً وحديثاً، وكانت بعد عصـر الصحابة على مذهب أبي حنيفة النعمان .. وظهر التشيع في أهل حلب أيام سيف الدولة»(6). وقال جواد مغنية: «وفي أيام سيف الدولة اشتدّ أزر الشيعة، وارتفع شأن التشيع.. وقد ظهر ذلك جليًا في هجرة علماء الشيعة إليهم» (7).

ومعلوم أنّ دولة بني حمدان قامت في الموصل سنة (293)، وامتدت إلى حلب سنة (333 هـ)، وسقطت سنة (392)، وبعد سقوطها أخذ يعود إلى حلب مذهب أهلها السني، وكان ذلك من خلال تضافر عدّة عوامل، منها ما كان بجهود الحكام والأمراء، ومنها ما كان بجهود العلماء والفقهاء.

أبو الوليد الباجي في حلب:
مـرّ أبو الوليد الباجي بحلب أيام المرداسيين (8)، سنة (437 هـ)، وتولى القضاء فيها، وقد ذكر ابن العديم ذلك، فقال: «وولّى قضاءَ حلب أبا الوليد، سليمان بن خلف الباجي سنة واحدة»(9)؛ ورد حلب صادرًا من العراق، وكان قصده أن ينصرف منها بعد يومين، وقد غلب على أهل البلد التشيّع، وناظر بعض علمائها من الشيعة على مذاهب أهل السنة فأفحمهم.
قال الباجي متحدثاً عن فترة وجوده بحلب، وعن دوره في إظهار كلمة السنة فيها: «ورغب إليّ أهل العلم والحال في المقام بها، وقالوا لي: أنت مستقبلٌ الشتاء، وليس بوقت سفر، وأنت تقيم بـ(صور) أو غيرها إلى وقت السفر، فاجعل مقامك عندنا، وظهر من قلق المتشيّعين فيها ما شاع، وبلغ السيدة بنت ابن رباب، وكانت من أهل السنّة، وقصدت مجلسي، وبلغ الأمر الأمير معز الدولة، ثمال أبي علوان بن صالح الكلابي(10)، وهو صاحب حلب في ذلك الوقت، وكان قد أفسد مذهبه معلّم قرأ عليه، فكانت زوجه السيدة بنت ابن رباب أنمري تروم صرفه عن ذلك، فلا تقدر عليه، فوجدت السبيل بي إليه، ورغب في أن يلقاني، فلقيته مرارًا، وانصرف عن ذلك الرأي الفاسد على ما أظهر، وكلّمت بين يديه المخالفين ... وظهرت كلمة السنة، وقعدت لإقراء كتاب البخاري، وحضرت السيدة المذكورة قراءة جميعه، وحضر الجمّ الغفير من الناس بعد منافرتهم لي، وأنسوا بما فيه من فضائل الصحابة، وبقيت عندهم بقية عام سبعة وثلاثين وعام ثمانية وثلاثين، وقد قرأ عليّ جماعة من أهل تلك الجهة، وفشت فيهم السنة، وكانت الفتوى فيها على مذهب مالك رحمه الله مدة مقامي بها» (11).

ولم يكن أمر الذود عن السنة في ذلك الوقت مقتصراً على العلماء، بل كان أمراً تضافرت عليه جهود العلماء والأمراء.
فكان للدولة السلجوقية جهود بارزة في نشر المذهب السني، ولا سيما في عهد الملك ألب أرسلان (ت: 465 هـ)، حيث أنشئت المدارس النظامية، بمشورة وزيره نظام الملك الطوسي، مدبّـر الدولة.

كما كان للملك العادل نور الدين، محمود بن عماد الدين زنكي، صاحب حلب (ت: 569هـ)، أثر كبير في إظهار مذهب أهل السنة، وذلك من خلال أمور وتدابير عديدة، منها: أنه قام بإنشاء المدارس السنية، وأوكل التدريس فيها إلى كبار علماء المدارس النظامية، كما اهتم بتخصيص دورٍ لتدريس الحديث الشريف، وقد أحصى المؤرّخ عزّ الدين شداد (ت: 684 هـ)، مدارس حلب في أيامه، فوجدها أربعاً وخمسين مدرسة، موزعة بين المذاهب الفقهية الأربعة، وثماني دور للحديث الشريف، بالإضافة إلى إحدى وثلاثين خانقاه للصوفية(12).

كما كان لجهود السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت: 589 هـ)، أكبر الأثر في نشر المذهب السنّي، وقد تمثل ذلك من خلال عدّة أمور، منها إكثاره من إنشاء المدارس التي تُدرّس قواعد مذهب أهل السنة، في العقيدة، وفقه المذاهب، والأخلاق والسلوك.

وبهذا العرض العام الموجز تتبين أهمية التعليم الشرعي في حفظ هوية الأمة الدينية والثقافية والحضارية والأخلاقية، وكذلك أهمية تضافر جهود العلماء والمسؤولين للعمل على نشر الوعي، وتصحيح المفاهيم الخاطئة.
والله من وراء القصد.



هوامش:
(1) باحث في التراث العربي والإسلامي، خريج جامعة الأزهر، من مؤلفاته: «من مصادر التراث العربي والإسلامي» و «من ادب الوصايا».
(2) نسبته إلى مدينة باجة (Beja) من أقدم المدائن الأندلسية نزل فيها جند مصر، وتقع اليوم في البرتغال. انظر ترجمة أبي الوليد الباجي في: ترتيب المدارك: لعياض (4/802). والصلة: لابن بشكوال (1/200). وبغية الملتمس: للضبي (ص: 302). والديباج المذهّب: لابن فرحون (ص: 197). والمغرب في حلى المغرب: لابن سعيد المغربي (1/404). وزبدة الحلب: لابن العديم (ص: 257). وتذكرة الحفاظ: للذهبي (3/247). وسير أعلام النبلاء: للذهبي (18/535). ونفخ الطيب: للمقري (2/67). ومعجم الأدباء: لياقوت الحموي (3/1387).
(3) الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى: لابن ماكولا (1/ 468).
(4) ترتيب المدارك ترتيب المدارك وتقريب المسالك: للقاضي عياض (4/802).
(5) وفيات الأعيان: لابن خلكان، بتحقيق إحسان عباس، دار صادر (2/ 409).
(6) نهر الذهب: لكامل الغزي، دار القلم، حلب (1/154) .
(7) الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية، دار التعارف للمطبوعات، بيروت (ص: 164 - 172).
(8) الدولة المرداسية: قامت في حلب سنة (414 هـ)، وذلك لما ضعف أمر العبيديين بمصر، وانقرض أمر بني حمدان من الشام، واستمرت الدولة المرداسية حتى قضى عليها الفاطميون سنة (472 هـ).
(9) زبدة الحلب: لابن العديم، تحقيق سامي الدهان، المعهد الفرنسي بدمشق (ص: 257).
المولِّي هو: أنوشتكين الدِّزبري، أمير الجيوش، ونائب المستنصر بالله، صاحب مصر.
(10) ثمال بن صالح بن مرداس الكلابي: أبو علوان، من ملوك الدولة المرداسية (ت: ٤٥٤ هـ).
(11) التعديل والتجريح: لأبي الوليد الباجي، دراسة وتحقيق: أحمد لبزار (1/65).
والاجتهاد والمجتهدون بالأندلس والمغرب: محمد الكتاني، تحقيق حمزة الكتاني (2/14).
(12) التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي من القرن الخامس الهجري حتى سقوط بغداد: د. عبد المجيد أبو الفتوح بدوي، دار الوفاء، المنصورة (ص: 214).

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين