كنتُ في رحلة علمية إلى إسطنبول من 25 إلى 31 ديسمبر عام 2024، وكانت هذه زيارتي الخامسة إلى المدينة التاريخية القسطنطينية. كان الهدف من الرحلة لقاء شيخنا العلامة المحدث الكبير، المحقق المتقن، الشيخ محمد عوامة حفظه الله تعالى، والاستفادة من مجالسته الطيبة. فإن قضاء ساعة في صحبة عالم مربٍّ متبحر مثله أنفع من قراءة مئات الصفحات، كما يقول الإمام النووي رحمه الله: «مجالسة حاذقٍ في الفن: أنفع من مطالعة الكتب ساعاتٍ بل أيامًا».
تواصلتُ قبل حجز تذاكر الرحلة مع نجل شيخنا، الأستاذ الدكتور محيي الدين حفظه الله، فأجاب -مشكورًا- بأنه يمكننا زيارة الشيخ الإمام لدقائق نظرًا لانشغاله ببرامجه العلمية وأعماله التأليفية والتحقيقية المتنوعة، إضافةً إلى تقلب حالته الصحية.
كان الفندق قريبًا من مكتب شيخنا الإمام في إسطنبول. ومن كرم الشيخ محيي الدين حفظه الله أنه أرسل لنا سيارة تقلنا إلى منزلهم، كما تكرم بدعوتنا إلى الغداء معه أيضًا. ولا شكَّ أن ذلك من فضله وحسن أخلاقه، فجزاه الله خير الجزاء.
كان اللقاء الأول في هذه الرحلة ظهر يوم الخميس السادس والعشرين من ديسمبر، وفي ذلك اللقاء القصير، سألني شيخنا الإمام أولًا عن طباعة تعليقات العلامة محمد أنور شاه الكشميري رحمه الله على «آثار السنن» للنيموي رحمه الله.
فأجبتُ: بأنني سمعتُ من نجل العلامة محمد يوسف البنوري رحمه الله، وهو الشيخ السيد سلمان البنوري حفظه الله، وذلك في رحلتي العلمية إلى مدينة كراتشي في أكتوبر من العام الماضي: أن العمل على تعليقات وحواشي الإمام الكشميري على «آثار السنن» قد انتهى وسيُطبع قريبًا في مجلدات.
فقال شيخنا الإمام: «إننا ما زلنا نسمع مثل هذه الأخبار منذ زمن ولم نر الكتاب مطبوعًا حتى الآن».
وكان السؤال الثاني من شيخنا الإمام: «كم سنة صحب العلامة يوسف البنوري شيخه العلامة الكشميري رحمهما الله»؟
لم يكن لدي الجواب الصحيح، فقلت: كأنه لم يصحب الإمام الكشميري لمدة طويلة، ولكن ربما تكون خمس سنوات أو نحو ذلك. فقال الشيخ حفظه الله: «نعم، أبحث عن هذا أيضًا منذ زمن».
وأخيرًا، سألني شيخنا الإمام: «هل لديك إصدار جديد؟»
فأجبته، مع العلم أنني قد أهديتُ لشيخنا الإمام «الأمالي على سنن أبي داود» للإمام الكشميري، والذي طبع في مجلدين بعناية هذا العبد الضعيف في اللقاء الأخير في السنة الماضية: لم يصدر لي كتاب أو عمل جديد بعده؛ لأنني كنت مشغولًا بتجهيز أطروحة الماجستير وبعض البحوث الأخرى باللغة الإنجليزية.
وبالمناسبة، ما يزيدني إلهامًا هنا: هو أنه منذ أن قدَّمتُ لشيخنا الإمام كتابي «الفوائد المنتقاة من أمالي إمام العصر محمد أنور شاه الكشميري» في أكتوبر عام 2019، كلما التقيتُ به يتحدث عن حياة وإسهامات العلامة الكشميري رحمه الله أو يطرح عليّ أسئلة تتعلق به. أشعر وكأن الشيخ يراني كأحد محبي وخدّام هذا العالم الجليل، وهو شعور قد يكون مجرد إحساس عاطفي مني، ولكنه يشجعني ويحفزني لخدمة تراث الإمام الكشميري رحمه الله وغيره من أئمتنا السلف الصالحين. وأرى هذا من حسن التفاؤل للعبد الضعيف، تقبل الله مني هذه الجهود المتواضعة.
ويوم السبت السابع والعشرين من ديسمبر، كانت لنا فرصة أخرى للقاء شيخنا الإمام حفظه الله تعالى. أخبرته أننا بحثنا عن مدة ملازمة الشيخ البنوري لشيخه الإمام الكشميري، فوجدنا في مقالة أردية - طبعت في عدد خاص من مجلة «بينات» الصادرة من جامعة العلوم الإسلامية بنوري تاون، كراتشي، وقد ترجمها الشيخ محمد حبيب الله مختار رحمه الله من مقالة عربية للشيخ البنوري نفسه -: أن العلامة البنوري رحمه الله قال: «إنني دَرَستُ العلوم الشرعية العليا في دار العلوم بديوبند من سنة 1345 إلى سنة 1347 هـ»، ثم قال: «وإنني لازمتُ شيخي الإمام الكشميري ليلًا ونهارًا لأكثر من سنة كاملة». فسُرَّ شيخنا الإمام بتلك المعلومة، وقال: «كان البنوري - من بين تلامذة الكشميري -: شخصية متميزة».
ثم ذكر لنا شيخنا الإمام قصةً طريفةً عن مولانا العلامة بدر عالم الميرتهي، أحد تلامذة الإمام أنور شاه الكشميري رحمهما الله. وهو الذي جمع أمالي شيخه على «صحيح البخاري» في كتابه المعروف «فيض الباري» قال:
كان الشيخ بدر عالم ذات يوم في الروضة الشريفة، فرآه أحد الأشخاص في هيئة جميلة مرتديًا ثيابًا بيضاء وحلة أنيقة. فسأله الرجل: «من أنت»؟ فأجاب: «أنا بدر عالم». فرد الرجل: «لا، أنت لست بدر عالم! بدر العالم هو صاحب هذا القبر!» مشيرًا إلى قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فابتسم شيخنا الإمام وهو يروي لنا هذه القصة الطريفة، كما هي عادته الطيبة في رواية الطرف والحكايات.
من عادتي أنني عندما ألتقي بعض أفراد عائلة عالمٍ كبيرٍ، أطرح عليهم بعض الأسئلة على أمل التعلم من حياته الشخصية والعائلية، ففي الليلة الأخيرة من إقامتنا في إسطنبول، أرسل نجل شيخنا الدكتور محيي الدين عوامة حفظه الله ابنَه محمدًا - الثاني -، وهو صاحب كتاب جيد في اللغة الإنجليزية في الرد على الملحدين المراهقين، جاء ليأخذنا - فضلًا منه - من الفندق إلى مكتبهم، فأثناء قيادة محمد للسيارة، بدأت الحديث معه وقلت: لقد اختار الله تعالى أسرتكم لتكونوا قادةً لنا في العلم، والآن أنت قائدنا في السيارة أيضًا! فتبسم الأخ الكريم محمد حفظه الله ونفع به. ثم سألته: نحن نقرأ دومًا في كتب جدك العلمية ونتعلم منها. لكنك تراه وتعرفه عن قرب، فهل يمكنك أن تشاركنا شيئًا من حياته الشخصية؟ فأجاب أخونا الفاضل محمد قائلًا: «يمكنني أن أذكر لكم أمرين اثنين:
أولًا، أنه لا يتحدث أبدًا في أمور الدنيا، فكل كلامه يدور حول العلم. حتى عندما يطلب الماء، فإنه يكتفي بالإشارة بيده بدلًا من الكلام.
ثانيًا، يتمتع بعزيمة قوية وهمة عالية جدًّا، فرغم كبر سنه، لا يظهر عليه أي كسل».
وعندما وصلنا إلى المكتب، وفي مناسبةٍ أخرى، سألت الدكتور محيي الدين عوامة حفظه الله نفس السؤال. وما شاء الله، من خلال هذا السؤال، شاركنا الشيخ محيي الدين بتفاصيل الجدول اليومي الكامل لوالده الإمام، وكان هذا الحديث مهمًا للغاية بالنسبة لنا كطلاب علم. وإليكم ملخص كلامه، والذي قام بتفريغه من التسجيل الصوتي من ذلك المجلس أخونا الفاضل عبدالله فهيم.
يقول نجل الشيخ أستاذنا الشيخ الدكتور محيي الدين عوامة حفظهما الله تعالى:
«أنا لا أعرف الوالد في عُمُري يضيع دقيقة واحدة من عمره، فوقتُه كلُّه مملوء، ثوانيه ودقائقه مدروسة.
وهذا بسبب جمعه بين شيخيه الأساسيين: الشيخ عبدالفتاح أبو غدة والشيخ عبدالله سراج الدين. فهو يُرْهِق نفسَه بين العلم والعبادة جدًّا جدًّا، فمولانا الشيخ عبدالفتاح معروفٌ باهتمامه الشديد بالعلم والتحقيق، ومولانا الشيخ عبدالله أيضًا معروف باهتمامه بالعلم -وهو إمامٌ فيه- مع التصوف والعبادة وقيام الليل.
فالوالد يجمع بين هذين الأمرين، الاهتمام الشديد بالعلم، ومحاسبة النفس بل الأنفاس على الدقيقة، وبين التصوف وتمام التعبد، فكيف يكون هذا؟ يكون على حساب صحّته ووقته.
ينام حضرة الوالد تقريبًا في الثانية عشرة ليلًا متأخرًا، وهو بهذا العمر، لماذا؟ سأشرح لكم لاحقًا، ولكنه يستيقظ قبل الفجر دائمًا بثلاث ساعات ونصف. هذا يعني: أن أيام الصيف لا يستطيع أن ينام فيها، لأنه يُؤذن في الرابعة، وقبلها بثلاث ساعات ونصف أي: الثانية عشرة والنصف، إذًا لا يستطيع أن ينام، فيواصل ليله بالفجر.
ولما ينام في أيام الشتاء عندما يطول الليل لا يشغل المُنبِّه أبدًا، هو قال لي: أناجي ربي وأقول له: يا رب، متى تريدني أيقظني، فأستيقظ دومًا قبل الفجر بثلاث ساعات ونصف.
بعد وضوئه وصلاته ركعتين سنة الوضوء يبدأ بورده من قراءة القرآن الكريم: فكل يوم يقرأ في السحر ستة أجزاء، ثم صلاة قيام الليل، وصلاة التسابيح يصليها يوميًا في التهجد، وله دعوات وأوراد إلى أن يؤذن الفجر، ومن أوراده التي يقرؤها في هذا الوقت: أوراد السادة الرفاعية، لأن حضرة الوالد رفاعي الطريقة من شيخه الشيخ عبدالله سراج الدين، ثم له في سجود السحر يوميًا أسماء خاصة يدعو لهم في السجود، وهم كثيرون، يسميهم بأسمائهم.
بعد صلاة الفجر، وتسبيحاته الطويلة، وقراءته لأوراد الصباح: يقوم للنوم، فنومه الأكثر الطبيعي: بعد الفجر، ينام عادةً بعد الفجر لساعتين ونصف تقريبًا، أو ثلاث ساعات، لا تزيد أبدًا، ثم يستيقظ ويفطر لقيمات سريعة، ويأتي إلى مكتبه، وينبه علينا: أن طالب العلم عليه ألا يطيل في طعامه، ويضيع وقته فيه، يأتي إلى طاولته لكتاباته وتحقيقاته إلى الثانية ظهرًا تقريبًا، حسب ما تنتهي المسألة من بين يديه، فيكون جلوسه قرابة أربع ساعات أو تزيد.
ثم يصعد إلى البيت فيتغدى، ثم ينام نصف ساعة؛ أو ساعة بالكثير، يعني: حصيلة يومه كله نومه لا يتجاوز خمس ساعات في الأربع والعشرين ساعة، ويزعل (أي: يَسْتاءُ ويتألَّم) ويقول: «كيف ينام طالب العلم أكثر من خمس ساعات»؟!
ينام هذه القيلولة، ثم يأتي إلى مكتبه، ويعمل تقريبًا إلى الثامنة والنصف، يعني: أيضًا يجلس في مكتبه أربع ساعات تقريبًا، ثم يصعد إلى بيته، يصلي العشاء ويتعشى.
بعد ذلك له أوراد معينة يقرأها في هذا الوقت، إلى النوم، وقد أكرمني الله تعالى بمرافقته دومًا، فلما نجلس ليلًا تكون السبحة بيده، وأنا أمامه مع أولادي محمد وزاهد، إما نقرأ عليه درسًا، أو نتشاور معه في مسائل علمية، وما أعرف الوالد تكلم في أمر من أمور الدنيا الدنيوية، ولا مرة واحدة في عمره، أما أمور الدنيا التي لها علاقة بالعلم والإسلام والمسلمين: فهو متابع لها ومهتم بها، يتابع ويسأل، ويرشد لحلها، ويتواصل مع أهل الحل والعقد لأجلها.
أما ورده الذي يقرؤه ليلًا الذي ذكرته لكم أول كلامي لما نكون معه، فهو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رأى أحد الصالحين في منامه، في المدينة المنورة من قرابة ثلاثين سنة، النبيَّ صلى الله عليه وسلم يأمره أن يخبر حضرة الوالد أن يصلي عليه يوميًا كذا وكذا (بالآلاف)، فالتزم بها حضرة الوالد ليلًا، وإلى أن ينتهي منها تكون الساعة الحادية عشرة والنصف تقريبًا، ثم يتوضأ وينام.
فهذا برنامجه اليومي، لا يعرف إلا الورقة والقلم، والكتابة والتحقيق، وقراءة القرآن والتسبيح.
نسأل الله أن يجعلنا تحت أنظارهم، وعلى خطاهم».
سبحان الله! نحن الشباب نشعر بالإرهاق بمجرد سماعنا عن هذا الجدول المزدحم بالأعمال والنشاطات لشيخنا الإمام حفظه الله! أما محاكاة جهده وعمله فهو أمر آخر تمامًا. نسأل الله تعالى أن يبارك في حياته وصحته، وأن يرزقنا التوفيق للاستفادة من علومه ومعارفه. آمين.
وفي مجالسنا مع نجل شيخنا الدكتور محيي الدين -صاحب المؤلفات العلمية القيمة الكثيرة- حفظه الله تعالى خلال اللقاءات الثلاث في هذه الرحلة العلمية، تعلمنا منه الكثير من الأمور النافعة والمهمة عن حياة شيخنا الإمام، على سبيل المثال:
ذكر لنا الدكتور محيي الدين كيف أن والدته المرحومة كانت عونًا كبيرًا لوالده الإمام في أعماله العلمية، حيث تكفلت بتربية الأبناء حتى أكملوا المرحلة الثانوية. وبعدها، تولى الإمام والدُهم تعليمَهم العلوم الإسلامية العليا بنفسه. وهنا أتذكر ما رأيتُه مكتوبًا في بعض جدران مُرَّاكُش:
«الأم مدرسة، إذا أعددتَها ... أعددتَ شعبًا طيبَ الأعراق»
وكما يقال: «وراءَ كلِّ رجلٍ عظيمٍ امرأةٌ».
كما حكى لنا قول العلامة المحقق المتفنن الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله في أهمية صحبة العلماء ومجالستهم: «إن المشافهة هي المُشامَّة».
وتحدث كذلك عن أهمية الثبات على منهج سادتنا من أهل السنة والجماعة، والتمسك به رغم ما قد يواجهنا من تحديات ومصاعب في حياتنا.
وأضاف مناقشةً حول ضرورة إعداد منهج دراسي يتناسب مع متطلبات العصر، ويستجيب لحاجات طلاب العلم في مدارسنا ومعاهدنا الشرعية. ولتحقيق هذه الحاجة، وخاصة في علم المصطلح، ألَّف الشيخ محيي الدين حفظه الله كتبًا وجعلها مستويات لتعلم هذا العلم الجليل، فكتب كتابه «توضيح مصطلح الحديث، منهج درسي بالرسم الشجري» للمستوى الأول، بينما ينتظر صدور كتابه «الحواشي المدنية على شرح المنظومة البيقونية» قريبًا، وجعله للمستوى الثاني، وهو مشجر أيضًا، وبعد هذا الكتاب يستطيع الطالب قراءة شرح والده العلامة الإمام لكتاب «تدريب الراوي»، ثم كتب الدكتور محيي الدين المستوى الرابع للمتخصصين من السادة الحنفية في هذا العلم الشريف، ليتعرفوا على نقاط الاختلاف في علم المصطلح بينهم وبين السادة الشافعية، وسماه «المسائل الأصولية المختلف فيها بين الحنفية والشافعية في باب السنة»، وهو مطبوع، وأهداني منه سابقًا نسخة، جزاه الله خيرًا، وبهذا تتم مستويات دراسة علم المصطلح بطريقة حديثة جديدة.
ثم تعرض إلى مادة التفسير، وقال لنا: وأما بالنسبة إلى «تفسير الجلالين» في مقررات الدرس النظامي السائد في المعاهد الشرعية في الهند وغيرها، فهو كتاب جميل ومناسب. ومع ذلك، فإن والده الإمام حفظه الله يقترح على الأساتذة والطلبة الاهتمام بـ «تفسير الخازن»، ويسميه: «التفسير المظلوم» لأنه لم ينل ما يستحقه من الاهتمام، ولم ينتفع به كثير من الناس كما ينبغي.
ثم أضاف لنا قائلًا: ينبغي لنا أن نركز على هذه الركائز الأربع: العقيدة، والفقه، والحديث، والتصوف.
ثم نَقَلَ ما يقوله والده الإمام عن التصوف، حيث يعرّفه بأنه ثلاثة أمور: الأخلاق، والأذكار (الأوراد)، والحقيقة والعرفان. وأوضح أنه لا يوجد أحد يختلف على أهمية الأخلاق والأذكار، وأما بلوغ مقام الحقيقة والعرفان: فليس متاحًا وميسرًا لكل أحد، ولذا يثار حوله الجدل بين بعض الناس.
وفي مناسبة أخرى، ذكر لنا الدكتور محيي الدين أن الشيخ محمد عبد المالك الكملائي حفظه الله، وهو أحد أنجب تلامذة العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله، كلما تحدث عن شيخنا العلامة محمد عوامة في بعض رسائله إلى الشيخ محيي الدين فإنه يلقبه بـ«الإمام»، كما أن بعض العلماء العثمانيين يلقبونه بلقب «شيخ الإسلام».
وقد سررنا جدًّا بما سمعنا من النشاطات العلمية والبرامج الدعوية والتعليمية لدار الحديث العوامية، ندعو الله تعالى أن ينفع بها الأمة عامَّةً وطلاب العلم خاصَّةً.
كما حدَّثنا الدكتور محيي الدين حفظه الله عن المشروعات العلمية التي تنجز تحت إشراف شيخنا الإمام في هذه الأيام. ومن أبرزها تحقيق علمي رصين لـ «سنن الإمام الترمذي»، حيث جمعوا له مئة وعشرين نسخة خطِّية من أنحاء العالم، واختاروا منها عددًا مناسبًا لدقة العمل. كما قاموا بدراسة تفصيلية لأربعين راويًا من أصل 129 راويًا شديد الضعف روى لهم الترمذي في «سننه»، وعلَّق شيخنا الإمام محمد عوامة حفظه الله بأن الإمام الترمذي رحمه الله لم يكن متساهلًا في الحكم على الأحاديث والرواة، بل هو متقن يختار من روايات الضعفاء ما أجادوا فيه.
ومن المشروعات الأخرى: العمل على خمسة كتب حول أحاديث كتاب «الهداية» في الفقه الحنفي: «نصب الراية» للزيلعي، و«العناية» للقرشي، و«التنبيه» لابن التركماني، و«الدراية» لابن حجر العسقلاني، و«منية الألمعي» لقاسم بن قطلوبغا. وتصدر هذه المجموعة في ثلاثين مجلدًا تحت عنوان: «موسوعة أدلة الفقه الإسلامي». وهنا، أشار الشيخ محيي الدين إلى أن الإمام الزيلعي رحمه الله، على الرغم من مكانته العلمية المرموقة، قد تأثر في بعض أحكامه على الأحاديث بآراء العلماء الشافعية، كما أن وفاته في سن الأربعين حالت دون تنقيح بعض آرائه ونضج بعض اجتهاداته.
وفي هذا السياق، ذكَّرنا شيخنا الدكتور محيي الدين بما كتبه في مقدمة كتابي «الفوائد المنتقاة من أمالي إمام العصر محمد أنور شاه الكشميري»: «وكنت ولا أزال أسمع من حضرة سيدي الوالد العلَّامة الشيخ محمَّد عوامة حفظه الله تعالى: ثناءه وإعجابه وإكباره لهذا الإمام العظيم، بل وتفضيله تحقيقًا وتدقيقًا على الإمام اللكنوي، ويقول لي حفظه الله تعالى: عاش الكشميري ستين سنة، وعاش اللكنوي أربعين سنة، فعشرون سنة ـ وهي سنوات اكتمال النضج ـ في حياة عالم كبير كافية أن يتفوق فيها الكشميري على اللكنوي، ويظهر فيها دقته العلمية، وتحقيقاته النفيسة رحمه الله تعالى».
وختامًا، كانت هذه الرحلة العلمية إلى تركيا مليئة بالفوائد والبركات بفضل الله تعالى وعونه. وقد سعدنا خلالها بلقاء نخبة من العلماء والباحثين في إسطنبول، من بينهم الشيخ فاتح قايا، والشيخ مجير الخطيب الحسني، والأستاذ الدكتور بكر قوزودشلي، والدكتور حمزة البكري، والدكتور محمود مصري. وفي قونيا، مدينة مولانا جلال الدين الرومي، تشرفنا بلقاء العلامة الشيخ محمد صالح بن أحمد الغرسي، والشيخ عمر فاروق، وأخينا الفاضل الأستاذ سميح التوقادي، حفظهم الله جميعًا. لقد غمرونا بحفاوة ضيافتهم وأثرونا بمجالسهم العلمية النافعة، فجزاهم الله خير الجزاء وأوفاه. وقد رافقنا في هذه الرحلة العلمية إلى إسطنبول أخونا الفاضل أبو موسى محمد هارون حسين، وأخونا الفاضل عبد الله فهيم، حفظهما الله تعالى.
محفوظ أحمد السِّلهتي
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين