الشيخ موسى العربِي

الشيخ موسى العربِي

التصنيف: علماء فقهاء
الجمعة، 15 جمادى الآخرة 1447 هـ - 5 ديسمبر 2025
65
موسى العربي...
موسى العربي...
الميلاد :- الوفاة :

توفِّي في دِمَشْقَ أمسِ المُنْصَرِمَ شيخٌ من شيوخِ الشّامِ الأَخْفِياءِ، الذين يرحلون بصمتٍ، فلا تضجُّ بوفاتِهم الصَّفَحاتُ، ولا يتصدَّرُ نَعْيُهُمُ المَنابِرُ.
شيخٌ لا يعرِفُه كثيرٌ من عامَّةِ الناس كما يُعرَفُ المُتصدِّرون، ولا تُلاحِقُه الكاميراتُ ولا تبهجهُ الأضواء.
ولكنَّه — عند طُلّابِ العِلْمِ — اسمٌ محفورٌ في الذاكرة، كما تُحفَرُ أسماءُ الأساتذة الأوائلِ الذين وضعوا أوَّلَ سطرٍ من كتابِ الحياة .
ذلك هو الشيخُ مُوسى العَرَبِيُّ ، العالِمُ الفاضِلُ، والإداريُّ الحازِمُ، والرجلُ الذي كان أحدَ أعمدةِ “الدَّرْبِ الطويلِ” لطلابِ العلومِ الشرعيَّةِ في دِمَشْقَ، في الثمانينياتِ والتسعينياتِ، أيّامِ الخوفِ ، والهجرةِ إلى دمشق في سبيلِ طلب العِلْمِ.


ذِكْرَى تعود…
أعادَتْ لي وفاتُه — رَحِمَهُ اللهُ — ذِكْرَى عزيزة على قلبي؛
ذِكْرَى تعودُ إلى سنةِ (١٩٩٢م)، يومَ اضطُرِرتُ — على الرغمِ من تفوُّقي الدراسيِّ — إلى تركِ دراستي النظاميّةِ في “ثانويةِ دُوما للبنين” عقب الصفِّ العاشرِ (الأولِ الثانوي)، لأنِّي لم أُشارِك في “المعسكرِ الصيفيِّ المُختلطِ” الذي كان شرطًا للدخولِ إلى الصفِّ الحادي عشرِ (الثاني الثانوي).
ولم يكن أمامي يومَها إلا أن أفتحَ بابًا جديدًا للدراسة، وكان ذلك البابُ هو:
معهدَُ الفُرقانِ للعلومِ الشرعيَّة.
ذهبتُ إلى المعهدِ في حيِّ المُهاجرين، نزلة جامعِ المُرابِط، ودخلتُ إلى الأستاذِ محمّد يوسف في إدارةِ التوجيه، وأخبرتُه برغبتي في الالتحاقِ بالصفِّ الحادي عشر لأُكمِلَ طريقي نحو كليّة الشريعة.
فقال لي — بهدوءِ المجرِّبِ العالِمِ —:
“يا بُنَيَّ… دخولُ المعهدِ ليس انتقالًا من صفٍّ إلى صفٍّ كما في المدارس النظامية ، بل انتقالٌ من مَنْهَجٍ إلى مَنْهَج.
يبدأ منهجنا من الأوّل الإعدادي، وينتهي بالثالث الثانوي، ولا يمكن القفزُ بين المراحل.
ثم إن شهادتَنا — للأسف — غيرُ مُعترَفٍ بها في كليّةِ الشريعة.”
قلتُ له:
سأدرسُ العُلُومَ الشرعيّةَ عندكم، وأدرسُ بالتوازي معها البكالوريا الأدبيّة، وأدخلُ الجامعة منها.
فالظروفُ أجبرتني، لا الرغبة.
فقال لي:
“النيّةُ طيّبةٌ… لكن القبولَ عند المدير … إن قَبِلَ، قبلنا جميعًا.”
وكان المديرُ يومَها رجلًا صعبًا…
كان هو مُوسى العَرَبِيَّ.


أوَّلُ لقاء :
أدخلني إليه الأستاذُ محمّد يوسف.
كان مكتبُه يعجُّ بالطُّلّابِ الدَّاخلين والخارجين.
نظر إليَّ وقال بهدوءٍ حازمٍ:
“انتظر… حتى يأتي دورُكَ.”
ثم ناداني وسألني:
“ما موضوعُك؟”
فشرحتُ له قصتي كما شرحتُ لِلشيخ محمّد يوسف.
فقال:
“اقرأ شيئًا من القرآن.”
فقرأتُ بصوتي الذي كنتُ أقرأ به في المسابقات القرآنية ، فأعجبَتهُ التلاوة.
ثم سألني:
“ماذا قرأتَ من العُلُوم الشرعيّة؟”
فذكرتُ له ما قرأتُه في التفسير والنحوِ والفقهِ،وذكرت شرح قطرِ الندى، وشرحَ شذورِ الذهب ، وغيرهما.
فقال:
“سنختبرُكَ في ثلاثةِ أمورٍ:
١ ـ حفظ القرآنِ الكريم.
٢ ـ أصولِ الفقه.
٣ ـ مصطلحِ الحديث.”
ثم أرشدني إلى كتابين مقرّرَيْن:
أصولُ الفقه لعبدِ الوهّاب خلاف،
وتيسيرُ مصطلحِ الحديث للطحّان.
وقال:
“اقرأ مباحثَ الكتابِ والسُّنَّةِ من الأوّل، ومباحثَ الصحيحِ والحسنِ والضعيفِ من الثاني، وارجع إليّ بعد أسبوعين.”
وكان ذلك — كما تبيّن لي لاحقًا — امتحانَ القبولِ الحقيقيَّ.


لحظةٌ مفصليّة:
عدتُ بعد أسبوعين، وقد بدأ العامُ الدراسيُّ.
أدخلني الشيخُ إلى مكتبِه.
ظننتُ أن الاختبارَ سيكونُ تحريرًا… فإذا به مناقشةٌ حُرّة.
قال لي:
“اشرحْ لي ما قرأتَ من كتابِ خلّاف.”
فشرحتُ مباحثَ الكتابِ والسُّنَّة، وهو يسألني ويختبرني.
ثم قال:
“عَرِّفِ الصحيح… الحَسَن… الضَّعيف.”
فعرّفتُها له.
ثم أعطاني خمسةَ مواضعَ مِنَ المصحف، فتلوتُها تمامًا.
عندها التفتَ إلى الشيخِ أبي أنسٍ المغربيِّ — رَحِمَهُ اللهُ — وقال:
“خُذْ هذا الطالب… وأَدْخِلْه الصفَّ الحادي عشر مباشرةً، فهو يستحقُّ.”
ولولا فضلُ الله، ثم شفاعةُ هذا الرجل المبارك، لَبقيتُ معلَّقًا بين طريقين صعبين لا أدري كيف أسلُكهُما.


بوّابةُ الأُمَم
دخلتُ المعهدَ، فرأيتُ فيه عالمًا جديدًا:
طُلّابًا من المغرب العربي: الجزائر، تونس، المغرب… وطُلّابًا من شرقِ آسيا… ومن البلقان…
ومن بلادٍ شتّى اجتمعوا على العربية والقرآن.
وكان الشيخُ موسى — رَحِمَهُ اللهُ — أحسنَ الناسِ رفقًا بهم وتعاملًا، وبخاصّةٍ إخوانَنا من المغرب العربي ذوي التوجّه السلفيِّ يومَها؛ وهو توجّهٌ كان يحتضنه “معهدُ الأمينية” أكثر من غيره.
ورأيتُ في الشيخِ موسى رجلًا يجمع ما تفرّق في غيره:
- حزمًا إداريًّا،
- وعِلْمًا نحويًّا راسخًا،
- وحكمةَ مُربٍّ يعرفُ كيف يفتحُ أبوابَ العِلْمِ في وجهِ الطلّاب.


سيرتُه
وهذا طرفٌ من ترجمتِه وسيرتِه:
موسى بنُ أحمَدَ العَرَبِيِّ؛ فلسطينيُّ الأصلِ، نَوِيُّ المحتِدِ، دِمَشْقِيُّ المنشَأِ. وُلدَ سنةَ ١٩٤٨م، ونشأ في حيٍّ من أحياءِ دمشقَ الهادئةِ، في زمنٍ كانت المدينةُ فيه تتنفّسُ العِلمَ كما تتنفّسُ النَّسيمَ، وتستقبلُ طُلّابَه كما تستقبلُ ضيفًا كريمًا.
تربّى في مسجدِ زيدِ بنِ ثابتٍ الأنصاريِّ، ذلك المسجدِ الذي تخرّجت منه أجيالٌ من أهلِ الفقهِ والحديثِ واللغةِ.
كان أوّلَ شيوخِه هو الشيخُ عبدُ الكريمِ الرِّفاعي، الرجلُ الذي إذا ذكرتَه دمشقُ ذكرتْ معه الورعَ والصفاءَ وحُسنَ التربيةِ.
قرأ عليه «المَعْرِفَةَ في بيانِ عقيدةِ المسلمِ»، و«شَرْحَ جَوْهَرَةِ التوحيدِ»، و«عُمْدَةَ السالِكِ»، قسمَ العباداتِ، و«إعانةَ الطالبينَ»، و«أصولَ الفِقْهِ» لأبي زَهْرَةَ، و«التَّاجَ» في الحديثِ، وحضرَ دُروسَهُ العامَّةَ، ومجلسَ الصَّفا.
ثم جلسَ إلى شيخِنا أبي الحسنِ مُحَيِي الدِّينِ الكُردِيِّ، فقرأ عليه «هِدايةَ الرحمنِ» في التجويدِ، و«رياضَ الصالحينَ»، و«الشِّفَا»، و«عُمْدَةَ السالِكِ» قسمَ المُعامَلاتِ، و«حاشيةَ الشَّرْقاويِّ على التَّحْريرِ»، و«إعانةَ الطالبينَ»، و«نهايةَ المُحتاجِ»، و«الرَّوْضَةَ» للنَّوويِّ، قسمَ العباداتِ، و«أَسْنَى المطالبِ شَرْحَ رَوْضِ الطالِبِ».
ولم يكن بعيدًا عن العربيّةِ، بل كانت أحبَّ العلومِ إليه، فقرأ على الشيوخِ: نورِ الدِّينِ قَرَهْ علي( قرأ عليه «الكتابَ الثالثَ»، و«الكتابَ الرابعَ» في النحوِ، وكثيرًا غيرَها ) وجمالِ الدِّينِ سيروان ( قرأ عليه بعضَ «أوضَحِ المسالكِ» ) ،وأُسامةَ الرِّفاعي(قرأ عليه بعضَ «أوضَحِ المسالكِ»، و«مُغْني اللبيبِ»)، وشوكتَ الجبالي(قرأ عليه «شُذورَ الذَّهَبِ»).
ثم سعى لتعلم الفقهِ المالكيِّ عند الشيخِ إبراهيمَ اليَعقوبيِّ، فقرأه عليه، كما قرأ عليه «شرحَ ابنِ عَقيلٍ»، و«مُغني اللبيبِ»، وغيرَ ذلك، ولعل رغبتَه في قراءةِ فقه المالكية كون أسرته تعود لأصولٍ مغاربيةٍ جزائرية قديمةِ الهجرة لفلسطين .
وسعى إلى التاريخِ فقرأه عند الشيخِ نايفٍ العبّاسِ، حيث قرأ عليه “البدايةَ والنهايةَ”.
وحضر عنده في (مجالس جامع الأصول).


العامل بصمت :
رجلٌ يعملُ بصمتٍ… كما تعملُ الجذورُ تحتَ التّرابِ لا تراها، ولكنّك ترى ثمرَها.
علّم في مسجدِ زيدٍ، وفي مسجدِ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ، وانتفعَ به طُلّابٌ كثيرون؛ بعضُهم صار اليومَ من كبارِ المدرّسين والخطباءِ، وهم لا يذكرون بدايتَهم إلا ويذكرون هذا الرجلَ، ومنهم شيخنا الشيخ صفوان داوودي الذي ترجم له في معجم شيوخه .
ثم تولّى إدارةَ معهدِ الفُرقانِ الشرعيِّ، وفي عهدِه اتّسع المعهدُ، وكَبُر، ورأى الناسُ فيه وجهًا جديدًا للعِلمِ المُنضبطِ.
لم يكن يطلبُ شهرةً، ولا منصبًا، ولا كرسيًّا يتصدّرُ به، بل كان — كما وصفَه مَن عرفَه — عالِمًا فاضلًا يعملُ بصمتٍ، بعيدًا عن الأضواءِ، حاضرَ البديهةِ، واسعَ الاطّلاعِ.
ولم يشتغلْ بتأليفِ الكتبِ، فقد شغله تأليفُ الرجالِ، لكنّـه ترك لنا كتابًا فريدًا هو “الموجزُ في مُصطلحِ الحديثِ”.
والعجيبُ أن هذا الشيخ — الذي أُخِذَت منه إدارةُ المعهدِ — لم يتغيّر، ولا غضب، ولا انزوى.
بقي مُعلِّمًا كما هو، يفتحُ بابَه، ويستقبلُ الطَّلَبةَ بوجهٍ صبورٍ، كأنّه يقولُ لهم:
إن لم أكُنْ مديرًا، فأنا — قبلَ ذلك وبعدَه — طالِبُ علمٍ يُعَلِّمُ ما عَلِمَ.


رَحِمَ اللهُ الشيخَ مُوسى… هذا طرفٌ من سيرته، وشيءٌ من أثره.


وإن كان الناس لا يعرفونه كثيرًا، فقد عرفه طلابُه، وعرفه العِلْمُ، وعرفه اللهُ سبحانه، وهو خيرُ مَن يعرفُ العاملين بخفاء.
رَحِمَه اللهُ وجزاه عن العِلْم وأهلِهِ خيرَ الجزاءِ، وعن تلامذتِهِ خيرَ ما يُجزى مُعلِّمٌ عن تلميذه.


بقلم: نور الدين طالب

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين