سماحة مفتي حمص الأستاذ الشيخ فتح الله القاضي

سماحة مفتي حمص الأستاذ الشيخ فتح الله القاضي

التصنيف: علماء فقهاء
الجمعة، 27 ربيع الأول 1447 هـ - 19 سبتمبر 2025
151
فتح الله القاضي...
فتح الله القاضي...
الميلاد :- الوفاة :2017 - 04 - 22

هو المعمَّر الصالح، والعالم المربي، مفتي محافظة حمص الشَّيخ فتح الله بن يوسف بن أحمد الريماوي القاضي، والريماوي: نسبة إلى قرية بيت ريما بالقرب من مدينة رام الله، والقاضي نسبة إلى عمل والده الذي كان كبير منطقته، مصلحاً بين الناس، وأباً راعياً لهم فلَّقبوه بالقاضي، وأخذ اللقب منه ابنه شيخنا المفتي.


ترك والده بلدة بيت ريما وخرج متجرِّداً بلا طعام ولا شراب يبحث عن الصالحين، حتى وصل إلى جبال عكا، حيث اجتمع مع شيوخ الطريقة اليشرطية الشاذلية فأعجب بحالهم وصفائهم وأذكارهم فلزمهم وحط رحاله بينهم، في منطقة الكابري، وهناك أبصر شيخنا النور لأسرة الصلاح هذه عام 1926م، وأشار شيخ الطريقة على الوالد يوسف أن يُدخل الشاب فتح الله في المدرسة الأحمدية الشرعية، التي أنشأها أحمد باشا الجزار في عكا، فتمَّ الأمر وأكمل بعدها شيخنا دراسته في الثانوية الشرعية في المنطقة نفسها حتى نال شهادتها الثانوية، بعد دراسة استمرت فيها لأربع سنوات، فقد دخلها يافعاً وعمره 13 سنة، وتخرج منها شاباً مكتمل الطموح والهمَّة وعمره 17 سنة.


استشار هو ووالده القاضي يوسف شيخهم اليشرطي فأشار إليه بإكمال طلبه للعلم وأشار إليه بالرحلة في طلبه في كعبة العلم والعلماء في الأزهر الشريف.


ولقيت دعوة الشيخ ترحبياً قلبياً وفرحة لدى الشاب المتحرِّق لطلب العلم، فرحل بعيداً عن أهله ووطنه ليجاور سنوات عديدة في الأزهر الشريف.


رحل الشَّيخ إلى مصر ووصل الأزهر وكان شيخه الأكبر يوم ذاك الشيخ محمد المراغي، وقُبل في كلية أصول الدين سنة 1942م، بعد أن رغب الشيخ في تخصصاتها في العقيدة والحديث والتفسير.


وأقبل على العلم بجد ونشاط ولزم الشيوخ والصالحين، ومكث في رواق الشوام في الأزهر ست سنوات ليحمل بعدها شهادة أصول الدين سنة 1948م.


ولم تروي هذه السنوات ظمأ الشاب وهمته فأكمل دراسته في كلية التربية في الأزهر ليتخرج منها سنة 1950 حملاً لشهادتها أيضاً بالإضافة إلى شهادة كلية أصول الدين.


يذكر من زملاء الدراسة في الأزهر الشيخ نصوح السباعي الحمصي وكان أكبر منه سناً ومتقدم عليه في الدراسة بأكثر من سنة، ثم قدم أخوه الأصغر مصطفى السباعي فالتحق بعده في الدراسة في الأزهر.


وبدأ الشيخ بنشر ما تعلَّمه وتلقَّفه مِن الشَّيخ وجعل مرضاة الله نصب عينيه، واختار مدرسةً خاصة بالقرب من أنبابا، ليبدأ فيها غرسه، يسقيه من فكره ويرعاه بعنايته ومكث سنته الأولى بعد التخرج في مصر معلماً وداعياً وموجهاً.


وأثناء دراسته الأزهرية هُجِّر أهله ووالده وأقربائه من أرضهم وديارهم فلسطين بعد عام 1948 من قبل المغتصبين للحقوق، شذاذ الآفاق، وحثالة المجتمعات.


فرحل والده مع بقية أسرته لينزلوا في قرية كازو، وهي قرية صغيرة تابعة لمدينة حماه، ولقي من أهلها ترحاباً، ووجد عندهم طمأنينة فجعلها مستقراً لإقامته بينهم.


وفي عام 1951 أعلنت الحكومة السورية عن مسابقة لانتقاء مدرسين في ملاك التربية، فقدم الشيخ من مصر وشارك فيها مع خمسة من المتقدمين فقط كان منهم اثنان من منطقة اللاذقية، وآخر من أسرة الحموي، وأكرمهم الله بالنجاح جميعاً، وعُيِّنوا الشيخ في مدينة حمص.


فأرسل له والده برقية إلى مصر يخبره بنجاحه وتثبيته في مدينة حمص، ورغب إليه أن يترك مدرسته في مصر ليكون قريباً من أهله ، ويستقر بمدينة حمص.


وبعد انتهاء علاقاته بمصر عاد الشيخ ليجد مدرسة الزهراوي كبرى المدارس الثانوية للذكور في مدينة حمص بانتظاره، فشمَّر عن ساعد الجد ، وعزم في قلبه على الاستقرار في مدينة حمص والاستفادة والإفادة من أهلها وعلماءها.


درَّس الشيخ في عدة مدارس منها الزهراوي وسُكَينة ودار المعلمين، ولما تعين الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي معلماً في حمص قبل إكماله للدراسات العليا ووضعوه في مدرسة الفنون الجميلة للإناث، لم يوافق والده العلامة الورع الشَّيخ ملا رمضان البوطي، وطلب منه عدم التدريس فيها، وترك الوظيفة، وأمام إلحاح والده قام باتفاق مع شيخنا ليدرس مكانه في مدرسة البنات وينتقل الدكتور سعيد ليدرِّس الذكور، وكان ذلك. كما أنَّه درَّس في متوسطة أسماء للبنات عام 1954م.


وكان لشيخنا نشاط دعوي في المخيم، وله مواقف وطنية بحسب المناسبات الوطنية الفلسطينية في مسجد المخيم، الذي سمِّي يومها مخيم العودة، وكان يلازم الصلاة في الجامع الكبير، لا سيما صلاة الجمعة عند الشيخ نصوح السباعي، ثم يختلف مع صحبه إلى مكتبة أبي محمود علوان للتباحث في القضايا الإسلامية والمستجدة ومطالعة الكتب وشراء الجديد منها.


وبدأ الشيخ بصِلاته مع مدرسي المدينة ثم مع مفتيها الشيخ طيب الأتاسي، وصار يحضر بعض دروسه، وخصوصاً درس يوم الأربعاء الذي كان يعقد في بيت المفتي، ويتداول فيه الشيوخ أهم قضايا البلدة بالإضافة إلى قراءة بعض كتب الفقه، وكان الشيخ المفتي محمد طيب الأتاسي يوكله بإلقاء الدرس نيابة عنه عند سفره أو مرضه.


واستمر الشيخ في مهنته داعياً إلى الله ومعلماً ومربياً حتى تمت إعارته من ملاك وزارة التربية إلى ملاك وزارة الأوقاف ليتسلم أمانة الإفتاء في مدينة حمص سنة 1982م ، ويعمل في ظل وتوجيات المفتي الشيخ طيب الأتاسي.


ولما توفي الشيخ طيب سنة 1984م شغر منصب الإفتاء في البلدة وكلِّف الشيخ فتح الله القاضي بهذا المنصب بالوكالة ليبدأ عهداً جديداً من مراحل العطاء.


استلم الشيخ الإفتاء وأصبح رئيساً لجمعية العلماء بحمص وبدأ نشاطه الدعوي والتعليمي في مقر الإفتاء وفي المناسبات العامة والخاصة.


واستمر على حضور درس الأربعاء في منزل سماحة المفتي الشيخ طيب الأتاسي بعد وفاته وقد قام ابنه عبد الحكيم الأتاسي بإقامة الدرس بعد وفاة والده، وكان الشيخ زهير الأتاسي يقرأ في كتاب اللباب في الفقه الحنفي، وتعرض المسائل ويدلي الشيخ فتح الله تعالى مع الحاضرين برأيه وعلمه.


هذا بالإضافة إلى إدارته وتدريسه في المعهد العلمي الشرعي التابع لجمعية العلماء، في جامع الصحابي الجليل خالد بن الوليد، وتدريسه أيضاً في الثانوية الشرعية، حيث درَّس فيهما أكثر المواد كثافة ودقة، وأكثرها حاجة للشرح والبيان، فدرَّس مادة الفقه، ومادة أصول الفقه، ومادة الفرائض وغيرها.


وبدأ أيضاً بتدريس القرآن الكريم وتفسيره في جامع الفردوس في حي الإنشاءات فأتم تفسيره في سنوات مديدة، ثم عاد إلى تدريسه وتفسيره مرة أخرى وقد شارف على الانتهاء منه.


كما أقام الشيخ درساً لجميع خطباء وطلاب العلم في مدينة حمص في مكتبة الجامع الكبير بين المغرب والعشاء في كتاب الأربعين في أصول الدين للإمام الغزالي، واستمر الدرس لأشهر عدة، حضره علماء البلد وطلبة العلم، وكان حفيلاً مليئاً بالفوائد والفرائد والمشاركات والحوارات.


وكنت كلما دخلت إليه زائراً في مكتبه في مديرية الأوقاف بحمص، أو في مكتبه في جمعية العلماء في الجامع النوري الكبير، وجدت بين يديه الكثير من الكتب الفقهية ذات اللون الذَّهبي يقلِّب أوراقها مطالعاً وباحثاً ومتأملاً، وأذكر أني رأيت أمامه في عشرات الزيارات له الموسوعة الفقهية الكويتية بلونها الأزرق الجميل وحجمها الكبير، يطالع في مجلد أو أكثر مفتوحة أمامه يقرأ فيها باعتناء واهتمام.


شخصيته: كلُّ مَن جالس سماحة الشيخ في غرفة الإفتاء في دائرة الأوقاف أو في المسجد الكبير أو في دروسه الخاصة والعامة يرى فيه شخصية هادئة متوازنة، عنده مقدرة على التحليل والشرح والتبسيط، ويطلب من الحضور المشاركة فيسألهم عن رأيهم ويستمع للآراء ويبتسم لأجوبتهم، وهذا يساعد في استحضار الوجوه المختلفة للمسألة، ويضمن حسن استماع الحاضرين لرأيه وتقريره الذي يبدأ به بعد كلماتهم، ويفيض بشرحه بهدوء ورزانة، ويأتي بنفائس ولطائف.


شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات، ولعلَّ أهمها دروات الأئمة والخطباء التي كانت تقيمها مديرية أوقاف حمص لسنوات عديدة، وكان للشيخ في كل موسم منها أكثر من مشاركة ومحاضرة، بالإضافة إلى ندوات الوزارة في محافظات أخرى كدمشق وريفها.


قال عنه شيخنا الشيخ ممدوح جنيد رحمه الله تعالى: «كان مثال العالم المربي للأجيال، له بصمته المميزة، وبعد أن أُحيل على التقاعد استلم منصب الإفتاء في حمص، وكان - حقًّا - أهلاً وجديراً بهذا المنصب، فصار يداوم في إدارة الأوقاف، ثمَّ أحبَّ أن يكون قريباً من الناس، فاختار أن يجلس في غرفةٍ في الجامع النوري الكبير مع غرفة إصلاح ذات البين، قريباً من غرفة الشَّيخ طاهر الرئيس، وأمَّا غرفته فكانت تعجُّ بالمستفتين، وكانت فتاويه علميةً رصينةً محكمةً، ولم تُرَدَّ له فتوى، وأغلب فتاويه إضافة إلى فتاوى العبادات التقليدية صلاة وصيام وزكاة: كانت فتاوى في الشَّركات والمعاملات وتصفيات المواريث، وما يصاحبها من مخاصمات وخلافات مادية بين الناس، فكانت فتاويه وأحكامه تنزل على المستفتين برداً وسلاماً، يتلقونها بالقبول والرضى التام.

والمهم فيه بعد علمه الغزير: هدوءه ورصانته وحكمته، فما ارتفعت نبرة صوته، ولا احتد على الناس، علماً أن أكثر الحالات فيها ارتفاع لأصوات المتخاصمين وصخب وصياح، نعم أخلاق عالية، وهدوء ورويّة، قلَّ أن تجدها في غيره..»اهـ.


وبعد حياة حفيلة بالعلم والتربية أفل النجم الساطع في ضحوة يوم السبت 25 رجب 1438هـ الموافق 22/4/2017م، وتولى تغيسله وتكفينه كل من الأساتذة الشيوخ المقرئ الجامع الشيخ عبد الوارث عبد المولى، والأستاذ الشيخ عبد اللطيف البريجاوي، والأستاذ الشيخ عبد المجيد عروب، والأستاذ الشيخ نضال حزوري.
وشارك في تشييعه الفعاليات الرسمية والشعبية والأهلية بالإضافة إلى عدد كبير من عامة الناس، وصُلِّي عليه في الجامع النوري الكبير، وأمَّ المصلين مدير أوقاف حمص الأستاذ عصام المصري، ثم ألقى بعدها كلمة تأبين ذكر فيها مزايا الفقيد رحمه الله تعالى، كما تكلم الفقيه الضَّليع الشيخ زهير الأتاسي فذكر شمائل سماحة المفتي وأخلاقه وعلمه، كما تكلَّم المفتي العام الشيخ أحمد حسون على الهاتف، وألقى ممثل الرئيس الفلسطيني محمود عباس كلمة بالنيابة عنه، وكذا شارك في تأبينه بعض الفعاليات الأهلية والمحلية.
وبعد تشييع حافل، وصل الموكب المهيب إلى مثواه الأخير في الكثيب الأحمر، حيث دفن بالقرب من شيوخ حمص المدفونين هناك.


رحل الشيخ الجليل عن عمر إحدى وتسعين سنة، قضى أكثر من ثلثيها في التربية والتعليم والتدريس والنفع، وما زال زرعه وفيراً وذكره على كل لسان وفي كل قلب، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.


رثاه عدد من الشعراء منهم الأخ الشيخ مصطفى عباس الحموي بقوله:


يا ليـــتني إذ جــــاءَ نَعــيُكَ أحـــــلُــمُ أنَّى ؟ ومـــا كـتــــبَ الإلهُ مُحَتَّــمُ
غـــادرتــنـــا فَبِــــكُلِّ قلـــبٍ غُصَّــةٌ وكــآبةٌ فــــوقَ النُّفـــوس تُـــخَيِّــمُ
نبكي كما بكـــتِ الســــــمــاءُ بِلَيْلَــةٍ ماتَ الهـــلال بها فنــاحــــتْ أنجُمُ
نبكي وتبكي حـــمصُ مُفْتِيَهَا الـــذي قــد كانَ فتحاً جـــاد فيـــه المــكرِمُ
تبكي فلسطـــيــــنُ الأبيةُ شيـــخَــها والمــــسجدُ الأقصــى يسربلهُ الدّمُ
تبكي محاريــبُ المســــاجد مَنْ بها صلّـــى وبعـــــد الـــذكر قـام يُعَلّمُ
نبكيـــكَ فـتـــحَ الله شـــيخاً بل أبـــاً فكأنـــنـــا مـن بعد فَــقـــــدك يُتَّـــمُ

أنا من حماةَ أتيــــتُ أحمل حرقـــةً بين الضـــلوع وخـــــافـــقــاً يتألّم
وأبو الفـــــداء أتى يعـــزّي خــالداً والعينُ يهمي جفنُــــــها المـــتورّمُ
أنا من حمـــــاةََ ومنذ أيــــام الصّبا صَبٌّ بحمصَ ولي فــــــؤادٌ مُغرمُ
لهفي لذكرى معهدٍ قــــد ضمّــنـــا والقلبُ فــــي أشياخ حمـــصَ مُتَيّمُ
في المعهد الشرعي كان شعـــارُنا إنّ المحبــة للـــجــــراح البــلــســمُ
بجوارِ سيف الله كم وقتٍ مـــضى والأنسُ يشـــدو , والهــــوى يترنّمُ
..لم تبقَ إلا الذكرياتُ بخاطــــري ويلـــوح لــــي كـــالبــدرِ نورٌ منهمُ
واليوم جئت لكي أقولَ قصـــيـــدة ثكلى ونارُ مشـــاعـــري تتـــضـرمُ
أخفي تباريح الفــــراق بـــــداخلي وإذا الدمــــوعُ عــلى الخدود تترجِمُ
ليس الرثاءُ بأن نلمـــلــمَ أحــــرفاً نبني بها صرحَ القـــريـــض ونهدِمُ
إن الرثاءَ بأن نبــثَّ مشــــاعـــراً بين الســطور نشيجُــهــا يـتـــكــــلمُ
هو بوح قافية ونوحُ قـــصـــيـــدة بــدمـــوع آمــــــاقِ الحُشـــاشة تُنظَم

في أحرفي شَجَنٌ تخضّب بالأسى وفمي لفــقـــد الشــــيخ كــم يتـلعثمُ !
إن غاب يومـــاً عن عيون طالما نظـــرت إليــــه وثغـــــرُهُ مُتـبســـمُ
فبقلبنا وبروحـــنـــا نـــــرنو إلى أطيـــافــــه وعلى الطيـــــوفِ نُسلّم

فســــــلوا الإلــه بأنْ يحولَ تربةً ضَمّتـــهُ روضا , بل عــليه ترحّموا
نبعٌ من الأخـــلاق غَيَّبَهُ الثَّــــرى فبكى مسيـــحيٌّ عليـــــه ومـــسلــــمُ




بقلم الدكتور: محمد عيد المنصور

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين