في الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل الوالد محمد مجاهد شعبان رحمه الله

في الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل الوالد محمد مجاهد شعبان رحمه الله

التصنيف: علماء دعاة مربون
الجمعة، 19 ربيع الآخر 1447 هـ - 10 أكتوبر 2025
137
محمد مجاهد شعبان...
محمد مجاهد شعبان...
الميلاد :- الوفاة :

تمرّ هذه الذكرى وليست كسابقاتها من الذكريات، فقد تحررت البلاد من طاغوت النصيرية الباطنية، وفكّ الله أسرها من قيود آل الأسد المجرمين، الذين مكثوا على صدر البلاد أكثر من خمسة عقود. ولأن الوالد رحمه الله كان واحدًا ممّن عانى من هذه العائلة البائدة، ولاقى من هؤلاء المجرمين صنوف الظلم، فقد صارت هذه الذكرى متميّزة عن غيرها، اختلط فيها الحزن بفقده مع الفرح بزوال الظلم وأهله.

فقد تعرّض الوالد في حياته لاعتقالات عدّة، وتعذيب شديد أدى إلى تسكر ساقيه وأقعده في المستشفى مدّة، كما مُنع من الدروس والسفر، وفَقَدَ أصدقاء وأحبابًا؛ ففي ثمانينيات القرن الماضي استُشهد عدد من رفاقه، وغُيِّب كثير منهم في السجون، وفرّ آخرون إلى بلاد شتّى هربًا من القتل والاعتقال. لذلك لم يمرّ يوم من الأيام، ولا جلسة من الجلسات، إلا وكان للوالد رحمه الله فيها كلام عن ظلم هؤلاء الطغاة، ودعاء عليهم، ودعوة لمقاومة ظلمهم وفضحه بما هو متاح في تلك الأوقات.

وأذكر من كلماته، التي نقلها لي بعض تلامذته المقرّبين في أحد المجالس، أنّه قال:
"لقد ضيّقوا علينا كثيرًا، ولكن لو بقي لنا خَرْم إبرة نشتغل فيه بالدعوة والعلم والجهاد لاشتغلنا ولم نتوقف".
فمنه رحمه الله تعلمنا مجاهدة الظلم والجبروت، ومنه تعلّم كثير من الشباب معاني الجهاد ومجالاته، وكانوا من أوائل المشاركين في الثورة الشامية المباركة.
وممّا تعلمناه منه، في بيتنا وفي خطب الجمعة وفي المجالس، أسماء المجاهدين وفرسان الإسلام الأوائل والأواخر؛ فسمعنا اسم سلمة بن الأكوع (وقد سُمّي أخي الشهيد –تقبله الله– على اسمه) ونداءه: "أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرُّضَّع"، واسم أبي محجن الثقفي وقصته بعد توبته من شرب الخمر وقوله للمرأة التي عيّرته حين ظنته هاربًا:

إنَّ الكرامَ على الجيادِ مبيتُهمْ *** فدَعي الرماحَ لأهلها وتعطّري

ومنه سمعنا اسم المجاهد نور الدين محمود الشهيد (وقد سُمّيتُ على اسمه)، وأسد الدين شيركوه عمّ صلاح الدين الأيوبي، وكذلك المجاهد البطل يوسف بن تاشفين. وسمعنا كذلك اسم المجاهد عز الدين القسّام، والشيخ عبد الله عزام الشهيد البطل، كما سمعنا عن المجاهد الداغستاني الشيخ شامل، وعن المجاهد الشهيد شامل باساييف الشيشاني، وغيرهم الكثير من الفرسان والمجاهدين.

حتى قصصه التي كان يرويها لنا ونحن أطفال صغار، كانت تدور عن شباب لا يهابون الموت ولا يخافون المخاطر، ليزرع فينا معاني الرجولة والشهامة والقوة وحب الجهاد وأهله. ولذلك لم نتردد، ولله الحمد، في الانخراط في ثورة أهل الشام المباركة لحظة واحدة.
وكان رحمه الله يعلّمنا منذ طفولتنا ألعابًا تحمل معاني الرجولة والقتال ويربطها بالجهاد في سبيل الله؛ فكان يصنع لنا بيده القوس والنشاب ويعلمنا الرماية به، ويصنع لنا المقلاع ويُرينا كيف نضرب به. وكانت تلك الفترة تشهد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وتصلنا صور الفلسطينيين وهم يرمون جنود الاحتلال بالمقالع.
وكم مرة سمعته يقول إن لعبة الصيّاح (وتسمى "المكّوك" في بعض البلاد) تُعلّم الطفل الضرب بالسيف وتقوية اليد، فكان يربط كل لعبة من هذه الألعاب بالجهاد في سبيل الله.

ومن مناقب الوالد رحمه الله أنه تخرّج على يديه عشرات الإخوة المجاهدين الذين ساحوا في مختلف البلاد جهادًا في سبيل الله، من أفغانستان إلى البوسنة، ومن الشيشان إلى العراق، ثم إلى ثورة الشام. ومنهم من لقي ربه، ومنهم من لا يزال حيًّا يذكر فضله. فقد عرفت إخوة كرامًا كانوا يزورون بيتنا مودّعين للوالد قبل سفرهم إلى أفغانستان أو غيرها من ساحات الجهاد، كما لقيت آخرين زاروا الوالد بعد عودتهم يحدّثونه عن أحوال الجهاد وأهله.
ولا أنسى احتفاءه بشباب عرب وسوريين جاؤوا من البوسنة يحدّثونه عن معاركهم وصبر الناس هناك، وكان الوالد يتأثر ويقول بحماسة: {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم}. وحكى لي شيخ شباب المجاهدين "أبو مصطفى" حفظه الله عن مجلس كانوا فيه مع الوالد أيام الحرب الشيشانية الثانية، يشاهدون فيلم خروج المجاهدين من غروزني وعملية بتر رجل شامل باساييف بعد إصابته بلغم أرضي، وكيف كان الوالد ينتفض واقفًا ثم يجلس ويكبّر تأثرًا برؤيته لصبر شامل على العملية، وصبر المجاهدين رغم البرد والحصار.

وقد كان للوالد مواقف مع الشباب المجاهد لا تُنسى، منها ما رواه لي أحد الإخوة المجاهدين –فك الله أسره– أنه جاء يودّع الوالد قبل سفره إلى أفغانستان، وبعد أن ودّعه ونزل الدرج ناداه الوالد، فأمسك يده وقبّلها، وقال له: "يدُ المجاهد تُقبَّل". فتأثر الأخ أيّما تأثر وقال لي: "كم كان لهذه القبلة من أثر في نفسي على المضي في درب الجهاد".

وعندما بلغه أن أحد أولاده يريد السفر للجهاد قال لصديق مقرّب له: "إذا أخذ الله ولدًا فقد ترك أولادًا".

وبما أن الحديث عن الجهاد وأهله كان ممنوعًا في بلادنا، فقد كان الوالد يتحدّث في خطب الجمعة عن معارك المسلمين وفتوحاتهم، ويُسقطها على أحوالنا تورية. ولا أنسى خطبته عن معركة أُحد حين قال إنها لم تكن خسارة بالمعنى العسكري بقدر ما كانت ثباتًا على المبدأ والقضية. وكذلك خطبته عن فتح عمورية بعد استغاثة المسلمة بالمعتصم، وخطبته عن معركة الزلّاقة التي قادها المجاهد البطل يوسف بن تاشفين وأنقذ بها الأندلس من السقوط سنوات طويلة. وكان أسلوبه في الخطبة يجعلك تشعر أنك حاضر المعركة تراها بعينك.

وكذلك خطبته عن أحوال المسلمين في البوسنة وما يلاقونه من الصرب المجرمين، وأكثر ما كان يؤثر فينا حديثه عن اغتصاب النساء المسلمات العفيفات هناك، وأذكر أنه أنهى خطبته بهذه الأبيات من قصيدة أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس:

وطفلةٍ مثلَ حُسنِ الشمس إذ طَلعتْ *** كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ
يقودها العلجُ للفحشاء مُكرهةً *** والعينُ باكيةٌ والقلبُ حيرانُ
لمثلِ هذا يموتُ القلبُ من كمدٍ *** إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ


وفي جلساته الخاصة مع الشباب المقرّبين من المجاهدين، الذين قاموا بانتفاضتهم في الثمانينيات على حكم النصيرية في بلادنا، كانوا يروون له بطولات الشهداء الذين خرجوا في أشد الظروف على حكم حافظ الأسد وجنده. وكان –رحمه الله– يستمع ويشاركهم الحديث من ذكرياته عنهم، وكنّا أطفالًا ولكنه لا يُخرجنا من مجالسه تلك كعادة آباء ذلك الزمان، بل كنا نجلس ونسمع ونتأثر.

وأود أن أذكر أمرًا مهمًّا يفهمه أهل الشام ومن عاش ويعيش ظروهم السابقة: كان إذا اعتُقل شخص ما، ابتعد الناس عن عائلته خوفًا من المسائلة المخابراتية وخوفًا من قوات الأمن، وإذا خرج من السجن تحرّجوا من زيارته خوفًا على أنفسهم. أما الوالد رحمه الله، فكان على العكس من ذلك يهتم ويعتني بعائلات أصدقائه وأقاربه الذين اعتقلوا أو استشهدوا في ثورة الثمانينات، وكان يستقبل الخارجين من السجن ويحتفي بهم ويكرمهم، ويستمع إلى ذكرياتهم وآلامهم، ويشاركهم بعضًا من تجاربه في السجون. وكم مرة سمعته يعلّم الشباب المهدّدين بالاعتقال كيف يناقشون المحققين، وكيف يجيبون على أسئلتهم تَهرّبًا من الوقوع في شِراك المجرمين.

فتشرّبنا من الوالد رحمه الله منذ طفولتنا حبّ الجهاد وأهله، وكراهية الظلم وأعوانه، وتعلمنا منه دفع الطغيان بكل ما هو ممكن ومتاح. كما عرفنا منه حبّ المظلومين والمعتقلين الذين لم تكسر القيود عزيمتهم ولا إيمانهم. لذلك لم نستغرب حين رأينا كثيرًا من تلامذته وأحبّته في طليعة المشاركين بالثورة السورية المباركة، فمنهم من صنعها من بدايتها، ومنهم من شارك فيها بكل تفاصيلها غير هيّابين ولا خائفين، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

فاللهم ارحم الوالد، واغفر له، وتقبّل منه صالح أعماله، واجزه عنا وعن المسلمين خير الجزاء. آمين.


بقلم ابنه: محمود نور الدين محمد مجاهد شعبان

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين