حكم ممارسة مهنة المحاماة والتأليف في شرح القوانين الوضعية
الجمعة، 15 جمادى الآخرة 1447 هـ - 5 ديسمبر 2025

نص الاستشارة:

صاحب الفضيلة، الفقيه الأفيق المحقق، العلامة مصطفى أحمد الزرقا حفظه الله تعالى.

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.


ثقة في علمكم، وسديد رأيكم، نستسمِحُ فضيلتكم بعرض الأسئلة الآتية:


السؤال الأول: ما حكم ممارَسة مِهنة المحاماة بوجه عام، وعلى الأخصِّ في ضوء المفترَضات الآتية:

- كون القوانين التي يُتقاضَى بها في ظِلّ أحكام مؤصّلة على الشريعة الإسلاميّة.

- كون هذه القوانين وضعيّةً وتناقض أحكام الشريعة الإسلاميّة.

في هذا الفرض وإذا كان الحكم عدم الجواز، هل يَقتصِر على القضايا التي لا تخالِف القوانينَ المنظِّمة لها أحكام الشريعة الإسلاميّة، كقانون الأحوال الشخصيّة في سورية أو مصر مثلًا؟

وفي حال الجواز هل هو عامّ؟ أم يقتصر على قدر الضرورة؟

وعلى كل حال، ما هو الضابط لتأكُّد المحامي من أحقيّة صاحب الخصومة ـ موكِّله ـ في حقِّه؟ هل يكتفي المحامي بما لديه من مستنَدات، أم يحلِّفه اليمين، أم ماذا؟ وكيف الحلُّ لو تيقَّن المحامي حين قبول الترافع في الدعوى أن موكِّله على حق، وبعد السير فيها في درجات التقاضِي وقبل الفَصل فيها بحكم بات، تبين له أن موكّله يُطالب بما ليس له، أو أنّه يُدافِع عنه رغم كونِه الجانيَ فعلًا، كما في قضايا المُخدّرات مثلًا؟


السؤال الثاني: ما حكم التأليف في شرح القوانين الوضعيّة ـ كالقانون المدنيّ أو الجنائيّ السوريّ أو المصريّ ـ حين يكون ذلك على سبيل التقرير لها وخدمتها بتفصيل أحكامِها؟ وأيضًا ما حكم القيام بتدريسها في كليّات الحقوق؟


أُسيْد محمد أديب الكيلاني.
الإمارات العربية المتحدة / العين.

الإجابة:

الأخ الكريم الأستاذ: أُسيْد محمد أديب الكيلاني المحترم.
الإمارات العربية المتحدة / العين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


جاءتني رسالتك (غير المؤرخّة) إثر خروجي من المستشفى، بعد مُكثي فيه شهرين كاملين إثر عمليّة جراحية لرُكبتي.
وعلى كلٍّ إليك جوابي بالاختصار الذي يقتضيه كوني في طور النقاهة:


1) ممارَسة المُحاماة:
إن المحاماة وِكالة بالخُصومة بالنّظر الفقهي، وهذه الوكالة جائِزة شرعًا في نظر الفُقهاء، بل لها حالات لا يجوز فيها عزلُ وكيل الخصومة إذا تعلّق بالوكالة حقّ لغير الموكِّل (كما لو أراد المَدين السّفرَ فطلب الدائنُ منعَه ليتمكّن من مخاصَمته قضائيًّا فوكّل عنه بالخُصومة).
والمُحاماة في الأصل هي مِهنة مَن يتخصّص بهذه الوكالات للخصومة، فالأصل فيها الإباحة الشرعيّة.
أما كون واقعها اليوم أن القوانين التي يترافع فيها المحامي فيها مخالَفات للشريعة (وليس كل ما فيها مخالِفًا للشريعة) فهذه القوانين ليست من صنعه، فإثمها على صانِعها، لكنّ عليه ألّا يطلبَ في مرافعته تطبيق الحكم القانوني المخالِف للشّريعة، وألّا يقبل دفاعًا عن موكِّل مُبطِل، وإذا ظهر له أثناء سير الدّعوى أن موكِّله مُبْطِل فعليه أن ينسحِب منه شرعًا، ويَستطيع أن يشترِطَ ذلك على الموكِّل.
إنني مارَست المُحاماة في حلب قُرابة عشر سنوات، ثم تخلَّيت عنها للتدريس؛ لهذا السبب؛ لأن الذي يشترط هذه الشُّروط على مَن يُريد توكيلَه لا يوكِّلُه!!
ولكن الناس اليوم في ظِلّ أصول المحاكمات وتعقيداتها، لا يستغنُون عن توكيل المُحامين الذين أصبحوا في كل البلاد هيئة عالميّة لا يُستغنَى عنها، ولو أوصينا كل مسلم متمسِّك بدينه بترك المُحاماة، لما بَقِيَ في الميدان إلا مَن لا يتورَّعون عن حرام، وفي هذا ضَرر ظاهر.
وينطبق عليها الكلمة المأثورة أنها ضَرر ضروريّ!! في ظِل الوضع الحالي في العالم، ويمكن أن تُبَرَّر بأن القاضيَ يمكن أن يُصدر حكمًا جائِرًا حتّى على الطرف المُبطل، فالمحامي عنه يُريد أن يحولَ ضِدّ ذلك.

2) حكم التأليف في شرح القوانين الوضعية:
القوانين الوضعيّة ليس كل ما فيها مخالِفًا للشريعة الإسلاميّة، وهي في جميع الأحوال علم مستقِلٌّ، وإن معرفة ما فيها من مخالَفات ليست محظورةً شرعًا، هذا إلى جانب ما فيها ممّا ينسجِم مع حكم الشريعة الإسلاميّة، ويُفيد الباحث تنويرًا في الاحتمالات في كل موضوع، ولا سيِّما في أسلوب العرض الذي قد يكون حسنًا ومُفيدًا في طريقة عرض أحكام الشريعة الإسلاميّة وفقهها.
فمعرفة ما عند الغير من أحكام ليس محرَّمًا شرعًا، بل هو داخل في عموم طلب العلوم على أساس أن العلم بالشيء، ولا الجهل به، ولا سيِّما إذا كان القانون المشروح نافذًا في البلد الإسلاميّ، ومطبَّقًا عليهم شاؤوا أم أبَوْا.
وتدريس هذه القوانين في كليّات هو أيضًا نوع من العلم، ولا سيِّما أيضًا إذا كانت هذه القوانين مطبَّقة في البلد الإسلامي شاء أهله أم أبوا، فالعلم ليس بمحظور، وإنَّما الإثم في التطبيق على من يملِك سلطة التغيير ولا يفعل.
لكن يجب على من يشرَح هذه القوانين، أو يدرِّسها أن ينبِّه على مواطن مخالَفتها للشريعة، ويقترح البدائلَ لها وهذا يعني وجوب معرفتِه للأحكام الشرعية: ثم إنّ مَن يتعمّقون في فَهم هذه القوانين إذا رزقهم الله الهداية، هم أقدرُ الناس على اقتراح التبديلات التي تجعلها موافقةً للشريعة، فهم عُدّة المستقبل لهذا الهَدف، وينبغي أن تكون هذه نِيّتَهم.


بقلم: مصطفى أحمد الزرقا
الرياض 27/ ربيع الأول / 1418هـ.
31 / تموز / 1998م.
عناية: مجد أحمد مكي