ترقيع الأحياء بأعضاء الأموات
الجمعة، 10 جمادى الأولى 1447 هـ - 31 أكتوبر 2025

نص الاستشارة:

تَقدَّم أمين سرّ جماعة الفكر الإسلامي بجامعة الخرطوم بسؤال لفضيلة الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا حول مسألة ترْقيع الأحياء بأعضاء الأموات من الناس، وهل تجوز شرعًا، وقد تَفضَّل فضيلته بالجواب التالي:

الإجابة:

إن هذا الموضوع قد كثُر عنه السؤال في العصر الحاضر، وخاصة من أطباء العُيون الجرَّاحين، بعد أن وصل الطب اليوم إلى إمكان ترْقيع عيون الأحياء بعيون من يموتون حديثًا إذا أُخِذَت عين الميت إِثْرَ الوفاة فورًا، فقد أصبح من الممكن بذلك أن يَرْتدَّ الأعمى بصيرًا في بعض حالات العَمَى، كما كثُر السُّؤال في هذا الموضوع نفسه حول إنشاء مصرف للعيون على نحو مصارف الدم؛ لتُحْفظ فيه عيون الموتى بصورة فنية، تَصُون خصائصها الحيَويّة، حتَّى إذا احْتِيج إليها تَكون موْجودة جاهزة لترْقيع عين المكفوفين بها، كما تُحفظ اليوم الدماء في مصارف الدم مُصنَّفةً فيها تلك الدماء المحفوظة، بحسَب الزُّمَر الدَّموية الأربع المعروفة؛ ليُؤخَذ الدم جاهزًا معروف النوع عند الحاجة إلى الإسعاف السريع للمرضى أو المنزوفين؛ إنقاذًا لحياتهم.

وقد كان فقهاء العصر بين متردِّد ومانع في جواز الاستفادة من عيون الموتى لهذه الغاية، وكلٌّ منهم يَنْظر إلى الموضوع من زاوية شرعيَّة مُعيَّنة:

فمنهم مَن ينظر من الناحية الإنسانية في الإسلام، ونصوصها العامة المعروفة في الكتاب والسنة، فيترجَّح لديه الجواز شرعًا. ومنهم مَن ينظر إلى أن هذا انتفاع بجزء من ميِّت، فيترجَّح لديه المنْع. ومنهم مَن يرى أنه قد يجوز هذا بين المسلمين، ولكنْ لا يجوز أن يؤخَذ عضوٌ من مسلم مُتوفًّى لترْقيع جسمِ غير المسلم.
وقد صدر أخيرًا في موضوع ترْقيع العيون فتوى من المفتي العام السابق في الجمهورية العربية السورية، الأستاذ الطبيب الشيخ محمد أبي اليسر عابدين بجواز ذلك.
والذي أرى أن قاعدة الضرورات في الشريعة الإسلامية تقتضي الجواز في جميع أنواع هذا التَّرْقيع؛ ذلك لأن ترقيع العين لإعادة البصر (وهي محل التردد والاشتباه) يُمكن قياسُه على الحَاجَة إلى استنقاذ الحياة بدفْع الهلاك، أو إلى منْع إِتلاف العُضْو عندما يتوقَّف ذلك على تناول بعض المُحرَّمات، حيث يُصرِّح الفقهاء أنه يجب تناوله لدفع الهلاك، فهنا لو قيل أيضًا بجواز أخْذ العَين مثلاً من الميِّت لإحياء حاسة البصر؛ لكان ذلك مقْبولاً شرعًا.
وإذا كان يَجوز، بل يجب وُجوبًا تشْريح الميِّت لتعلُّم الطِّب، أو لكشْف جريمة، ويجوز كشفُ عوْرة الرَّجُل والمرأة لأجْل ضرورة التطْبيب ودفْع الأذى، مع أنَّ كلَّ ذلك من المُحرَّمات القطْعيَّة في الأصل، فأُبيحَت أو وَجَبتْ بحسَب درجة الضرورة إليها، بمُقْتضى أن الضَّرورات تُبيح المحْظورات، وهي قاعدة نصَّ عليها القرآن نصًّا قطعيًّا، أفلا تكون الاستفادة من عيون الموتى لاستعادة بَصَر شخْص أعمى هي أوْلى بالجواز؟

ومما يُلْحظ في هذا الصدد: أنه لم يَتردَّد أحدٌ مِن فقهاء العصر في جواز نقل الدم من جسم إلى جسم آخر شرعًا عند الحاجة إلى الإسعاف، كما لم يَتردَّد أحدٌ في جواز تَرْقيع الجِلْد بالجلد، فما الفرق بين ذلك وبين ترْقيع العَيْن، مع العلم أن الدم عضوٌ من جُملة أعضاء البدَن في نظر الطب كالعُيون والجِلْد، ومع العلم أيضًا أن النظر الشرعي يُعتبر العضو بعد انفصاله من الحي كجزءٍ من ميِّت؟ ولذا يَنصُّ الفقهاء على أنه لو قُطِعَ عُضو من شاة وهي حيَّة، كان جزءًا من الميتة لا يَحل أكْله، إلا من السَّمك؛ فإن النص قد ورد بأن مَيْتَتَهُ حلال، فلم يُوجبِ الشرع ذبْحَه لأجل حِلِّه.
فالذي يظهر أن الذي يُقال شرْعًا في حكْم نقْل الدم والترْقيع بالجِلْد، يُقال في شأن الترقيع بالعين. وكون الدم والجلد يُؤخَذان من حَيٍّ، والعين تؤخذ مِن ميِّت لا تأْثير له في الحكم؛ لأن حُرمة الحي أعظم من حرمة الميِّت، ولأن العضو بانفصاله من الحَي يُعتبر شرعًا كالمُنْفصل من ميِّت كما بيَّنَّا.

علَى أنَّ الجواز يَنبغي أن يُقيَّد بإذن الشخص نفسه في حياته، أو إذن أوليائه بعد وفاته، إن لم يَكُن هو قد نَهَى قبل وفاته عن أخْذ عُيونه، وبشرط أن يكون ذلك تبرُّعًا إنسانيًّا ليس لِقَاء عِوَض؛ لأن دُخول العِوَض في هذا الموضوع له محاذير، فيَتَنافى مع القواعد الشرعية في الموضوع.

وقد صدَر منذ سنواتٍ قانونٌ في سورية جَوَّز أخْذ عُيون الموتى للترْقيع بها بشرط الإذن من أولياء الميِّت، أو بوصية أو إذن من الميت قبْل وفاته، ولكنَّه لم يتعرَّض لأمر العِوَض لأنه لم يكن مَحَلَّ تفكير أو تساؤل.
هذا ما أرى في هذا الموضوع، والله سبحانه وتعالى أعلم(2).


هامش
(1) مجلَّة المسلمون، المجلد التاسع، العدد الثالث، ثم نُشر أيضًا في مجلة حضارة الإسلام، العدد الأول، السنة السادسة 1385هـ / 1965م.
(2) يُنظر قَرار مجْمع الفقه الإسلامي بشأنِ انْتفاع الإنسان بأعضاء جسمٍ آخر حيًّا كان أو ميِّتًا قرار رقم: 26(1/4).